تدبر القُرْآن العَظِيم
الحلقة الحادية والعشرون بعد المائة الأولى
تدبر الآيات من (204) و(205) و(206) من سورة البقرة
********
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
********
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
هذه الآية الكريمة نَزَلَتْ فِي "الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ" وكان قد أَقْبَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وكان رجلًا من وجهاء العرب، وبلغائهم، وفصحائهم، وكان حلو الكلام والمنظر والهيئة
فلما قدم المدينة، والتقي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتحدث اليه، أَعْجَبَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكلامه، ثم خَرَجَ مِنْ المدينة ومَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وابلٍ، فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ، وَعَقَرَ الإبل، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فيه هذه الآية
أعجب النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكلام "الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ"
********
وكما نقول دائمًا: العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب، فهذه الآية وإن نزلت في "الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ" الا أنها تشمل كل المنافقين سواء على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو بعد عهده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحتى الآن وحتى قيام الساعة
وقضية النفاق والمنافقين من القضايا التى اهتم بها القرآن العظيم، وتناولتها عدد كبير من آيات القرآن العظيم، لأن المنافقين مع اليهود هم أخطر تحدي يواجه الأمة الاسلامية
لأن النفاق يدب في جسد الأمة كما يدب السرطان في جسد الناس، ولا يشعرون به إلا وهم جثة هامدة، انهارت قواهم، وفقدوا مناعتهم، عن طريق إحداث الفتن وعن طريق العمالة مع اعداء الاسلام
وهذه الآيات تتحدث عن بعض صفات المنافقين
يقول تعالى (وَمِنَ النَّاسِ) يعنى بعض النَّاسِ
(مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) يعنى تستحسن قَوْلُهُ ويروق لك ويعجبك
(فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) لها معنيين
الأول: يعنى أنت تستحسن كلامهم، ويروقك منطقهم، وأنت في هَذِهِ الْحَيَاةِ الدنيا، أما في الآخرة فلن يعجبك أمرهم، لأن حقيقتهم ستنكشف في الآخرة
والمعنى الثاني: يعنى يعجبك قولهم اذا ما تكلموا في شئون الدنيا، وَطُرُقِ جَمْعِ الْمَالِ، وتحصيل الجاه، وغير ذلك من أمور الدنيا، لأن كل اهتمامهم هي الدنيا ومتاعها، وحب الدنيا مسيطر عليهم وعلى تفكيرهم، أما أمور الآخرة فهم لا يحسنون القول فيها، لأنهم لا يهتمون بها
(وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ)
هناك قراءة (وَيَشْهَدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) بفتح الياء والهاء، يعنى الله تعالى شاهد ويعلم ما في قلبه من النفاق، وهذا تهديد ووعيد
وقراءة الجمهور (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) يعنى يقرن كلامه دائمًا بأنه يُشْهِدُ اللَّهَ عليه، يعنى يقول "الله شاهد أني صادق فيما أقول" أو "الله يعلم أني أقول حقًا" " أو نحو ذلك، أو يقسم بأن ما في قلبه موافق لقوله، فهذا الحلف اشهاد لله تعالى
كأن هذا النوع المنافق يشعر في قرارة نفسه أنه مفضوح بين الناس، ولذلك فهو يوثق كلامه دائمًا بالأيمان وبنحو هذا الكلام
(وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)
(أَلَدُّ) يعنى شديد و(الْخِصَامِ) تأتي بمعنى العداوة، وتأتي بمعنى الجدال
والمعنى أن من صفة هذا المنافق أنه شديد الجدال، وشديد الكراهية والحقد والعداوة للمسلمين
وهذا الْفَرِيقُ مِنَ النَّاسِ ذو الوجهين الذي تناولته الآية الكريمة، كان قديمًا يغش فَرْدَ أَوِ أْفرَادَ مَعْدُودِينَ، ولكن الآن –ما يطلق عليهم الاعلاميين- يغشون أمة بأسرها الا من رحم الله.
تجد الواحد من هؤلاء يتكلم ويأخذك بسحر كلامه ومنطقه، ويتحدث ويجادل بالساعات وكأنه يقرأ من كتاب أمامه، كما قال تعالى في هذه الآية الكريمة (يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ولكنه كما قال تعالى (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)
********
(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
(وَإِذَا تَوَلَّى) يعنى اذا انصرف من عندك هذا المنافق
(سَعَى فِي الْأَرْضِ) السعي هو المشي بسرعة، كما قال تعالى في سورة القصص (وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِين) كأنه لا يفسد على مهل، ولكنه يجتهد في الافساد
(لِيُفْسِدَ فِيهَا) والإفساد هو ضد الاصلاح
(وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) فالحرث هو الزرع، لأن الزرع ناتج عن حراثة الأرض أي إثارة الأرض وإهاجتها.
وَالنَّسْلَ هو نسل الدواب
وها ما حدث من "الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ" حين حرق زروع للمسلمين وقتل دوابهم
والعبرة بعموم اللفظ كما قلنا، وليس خصوص السبب فإهلاك الحرث والنسل كناية عن إتلافه لما به قوام أحوال الناس ومعيشتهم ، وعن إيذائه الشديد لهم .
(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) يعنى والله لا يحب المعاصيَ، ولا يحب أهل المعاصى، ولا يحب أهل الْفَسَادَ
وبمفهوم المخالفة، اذا كان اللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، فانه تعالى يحب الاصلاح، ويحب من يصلح في الأرض
يقول الإمام محمد عبده في المنار وَفِي هَذَا عِبْرَةٌ كُبْرَى لِلَّذِينَ يَقْطَعُونَ الزَّرْعَ وَيَقْتُلُونَ الْبَهَائِمَ بِالسُّمِّ وَغَيْرِهِ انْتِقَامًا مِمَّنْ يَكْرَهُونَهُمْ، وَهِيَ جَرَائِمُ فَاشِيَةٌ فِي أَرْيَافِ مِصْرَ لِهَذَا الْعَهْدِ
(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
الإمام محمد عبده
********
(وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
الصفة السادسة لهذا النوع من الناس، وهم المنافقون فهي قوله – تعالى) -وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم) أي : وإذا قيل لهذا المنافق على سبيل النصح والإِرشاد اتق الله واترك ما أنت فيه من نفاق وخداع وخروج عن طاعة الله ، استولت عليه العزة، (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) يعنى استولت عليه الْعِزَّةُ، وهي الأنفة والكبرياء والترفع
ثم قال تعالي (العزة بالإثم) حتى يوضح أنها العزة المذمومة، لأن هناك عزة محمودة، وهي عزة المؤمن على الكافر، يقول تعالى (أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين)
فأردف تعالى "العزة" بكلمة "الإثم" حتى يرفع عنها اللبس، ويوضح أنها العزة المذمومة وليست العزة المحمودة
وهذه من أساليب القرآن البلاغية، وهي "التتميم" وهو عبارة عن إرداف الكلمة بأخرى ترفع عنها اللبس وتقربها من الفهم
يقول عبد الله بن مسعود "أَبْغَضَ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ اتَّقِ اللَّهَ فَيَقُولُ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ"
وفي رواية (مِنْ أَكْبَرِ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ)
عن الحسن البصري أن رجلا قال لعمر بن الخطاب : اتق الله يا عمر ( وأكثر عليه ) فقال له قائل : اسكت فقد أكثرت على أمير المؤمنين . فقال له عمر: دعه دعه فليقلها لي، نعم ما قال، لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها
وما أكثر ما قيل لعمر بن الخطاب: اتق الله يا أمير المؤمنين
وكان "عمر بن عبد العزيز" يقول لصاحب له وهو "عمر بن مزاحم" وكان ذو علم
"يا عمر كن معي دائما، فإن رأيتني ضللتُ فهُزَّني هزًّا شديدا و خذُ بتلابيبي و قل لي: اتَّقِ اللهَ يا عمر فإنك ستموت"
اعترض رجل يهودي موكب "هارون الرشيد" وقال له يا أمير المؤمنين اتق الله واعطنى حقي، فنزل "هارون الرشيد" من على فرسه وسجد لله تعالى، فقالوا له: يا امير المؤمنين تفعل هذا لمقالة يهودي، فقال اني أخشي من قول الله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) فسجدت خضوعًا لله تعالى، اعطوا اليهودي حقه
(فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) حسب يعنى كافي، كما نقول "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" يعنى كافينا الله في كل ما يهمنا
أي أن جهنم كافية له عقابًا له
و(جَهَنَّمُ) اسم من اسماء النار التى أعدها الله تعالى للكافرين، وأصلها من الجُهْمة : وهي ظُلمة آخِر الليل، فسميت بذلك لظلمتها، لأن نار الآخرة سوداء
(وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)
"بِئْسَ" فعل ذم
و(الْمِهَادُ) جمع مهد، وهو المكان المهيء للنوم والراحة
وعبر الله تعالى بِالْمِهَادِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الرَّاحَةِ لِلتَّهَكُّمِ والاستهزاء بهؤلاء المنافقين
يقول الشعراوي في خواطره: يسمون فراش الطفل بالمهد، ووجه الشبه أن الذي يدخل جهنم لا ارادة له أن يخرج منها، كالطفل لا قوة له أن يغادر فراشه
الشعرواي
|