Untitled Document

عدد المشاهدات : 2427

الحلقة (127) من "تدبر القُرْآن العَظِيم" تدبر الآية (212) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212

 تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة السابعة والعشرون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (212) من سورة البقرة
********
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) 
********
تحدث الله تعالى في الآية السابقة عن الكفار الذين بدلوا نعمة الله كفرًا، ثم تحدث الله تعالى في هذه الآية عن السبب في سلوكهم هذا الطريق، فقال تعالى (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)
يقول تعالي (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) 
أصل "زين" أي جعل الشيء زينًا، أي: شديد الحسن
ومعنى "زين" أي جعل الشيء على غير حقيقته
مثال: أحضرت صندوق كرتون تريد وضع هدية فيه، فقمت بلفه في ورق ملون، وربطه بشريط ملون بشكل معين، ووضع جليدر، فأنت تزين الصندوق الكرتون، يعنى تجعله يظهر على غير حقيقته، حتى يكون لائقًا بوضع الهدية فيه وتقديمه.
أو أحضرت تمثالًا من الجبس وقمت بدهانه باللون الذهبي، فأنت زينت التمثال، أي جعلته يبدو على غير حقيقته
كما في المثل المصري "لبس البوصة تبقي عروسة" نبات البوص نبات ليس له شكل جمالى، ولكن اذا زينت هذه البوصة فستكون كالعروسة، يعنى تكون على غير حقيقتها
********
وكلمة (زُيِّنَ) مبنى للمجهول، أو مبني لما لم يسم فاعله، يعنى لم يذكر الفاعل، فمن الذي زين الحياة الدنيا للكافرين ؟ الذي زين الحياة للكافرين هو الشيطان الرجيم، وهذا مذكور في أكثر من موضع في القرآن العظيم
في قصة سليمان يقول تعالى (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)
وفي الحديث عن غزوة بدر (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ) 
فالآية تتناول وسيلة من وسائل الشيطان في اغواء بنى آدم، وهي التزيين، سواء تزيين الحياة الدنيا، أو تزيين المعصية
وقد تحدثنا من قبل عن وسيلة من وسائل الشيطان في اغواء بنى آدم، في قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ( وقلنا أن الشيطان يأخذك الى المعصية خطوة خطوة 
أما التزيين في وسيلة أخري في غاية الخطورة في اغواء بنى آدم، وهي وسيلة ثابتة –كما يقولون لعبة قديمة- من وسائل الشيطان في اغواء بنى آدم
فابليس اللعين زين لآدم وحواء أول معصية وهي أكل الشجرة
ومنذ آدم –عليه السلام- وحتى الآن والشيطان يستخدم نفس الاسلوب، فهو يزين للإنسان اي شيء ليس بيده، كأنه قال نفعت هذه الطريقة مع أبوهم آدم سأستخدمها مع ذريته
********
تجد مثلًا رجل متزوج وله أولاد وحياته مستقرة، وفجأة تجده باع كل ذلك: باع زوجته وباع أولاده وباع بيته في سبيل أن يتزوج من أخري، وبعد الزواج يندم على كل ذلك، وغالبًا لا يمكنه تدارك ما فات، لماذا باع كل شيء من أجل امراة، وبعد ذلك ندم على هذا الاختيار ؟ السبب أن الشيطان زين له هذه المرأة تزينًا أعمي بصره عن كل شيء 
ولذلك نجد نسبة كبيرة من الذين يمارسون الشذوذ الجنسي، تجد بعد انتهاء الممارسة، أحدهم يقتل صاحبه، لماذا ؟ لأن الشيطان زين له هذا الأمر، وبعد أن أفاق أصبح في حالة غضب شديد جدًا
تتعجب أن هناك مليار ومائة مليون مدخن في العالم، كيف يقبل هذا العدد المهول على التدخين وهم يعلمون يقينًا أنه يدمر أغلى ما يملكه الإنسان وهو صحته ؟ هذا تزيين الشيطان
عندما يتعاطي 30 مليون شخص المخدرات، وهم يعلمون أنها تدمر حياتهم، فهذا من تزيين الشيطان
كيف يشرب انسان الخمر وهي كريهة الرائحة، سيئة الطعم، وتسبب الأمراض، وتصل بالإنسان الى حالة مزرية ؟ انها تزيين الشيطان 

يصل الخمر بالإنسان الى حالة مزرية
********
يقول تعالى (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)
فهؤلاء الذين زين لهم الشيطان الحياة الدنيا، تجدهم يفتخرون دائمًا بأموالهم، وسياراتهم، وعقاراتهم 
كنت أعرف شخصًا، كلما قابلته لابد أن يذكر في حديثه ثلاثة أشياء: السائق والسيارة المرسيدس والمزرعة
فهو لا يري الدنيا على حقيقتها، ولذلك هو فرح وسعيد وفخور بامتلاكها
ولذلك عندما قدم على أبو بكر الصديق مالًا قال: "اللهم انا لا نستطيع أن نفرح بما زينت لنا"
********
وكلمة "زينة" كما قلنا أنها تفيد أنها تجعل الشيء على غير حقيقته
أيضًا الزينة من طبيعتها أن تقام ثم تفض
وكذلك الدنيا فان مدة الدنيا بالنسبة للحياة الخالدة في الآخرة لا شيء  
وانظر الى التعبير القرآني (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) فكلمة (الدُّنْيَا) مؤَنَّث الأدنى، يعنى الحياة الهابطة الحقيرة
********
(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا) فهؤلاء الكفار الذين بين أيديهم الحياة الدنيا، يسخرون من الذين آمنوا، بسبب فقرهم، لأنهم من وجهة نظرهم أنهم في منزلة أعلى من غيرهم من أجل أن الدنيا بين أيديهم، سواء مال او منصب أو أي شيء من متاع الدنيا
وهم يسخرون من طاعتهم وعبادتهم، لأنهم من وجهة نظرهم يضيقون على أنفسهم ولا يتمتعون بحياتهم
وهذا قمة الحمق، لأنهم ذهبوا الى الأدني وهي الدنيا، وتركوا الأعلى وهي الأخرة، وبرغم أنهم في الأدني فانهم يسخرون من المؤمنين الذين التفتوا الى الأعلى
يقول ابن تيمية "ان في الدنيا جنة من لم يعرفها لن يدخل جنة الآخرة"
جلس ابراهيم بن أدهم من صاحب له على نهر دجلة يبللان الخبز اليابس في ماء النهر ويأكلانه، فقال ابراهيم بن أدهم "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليه بالسيوف"
(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا)
********
وهذه الآية لها سبب نزول وهي أن المشركين واليهود والمنافقين، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين أمثال: عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيباً وبلالاً وخباباً وأمثالهم
فكانوا يسخرون من فقرهم ويسخرون من عبادتهم وطاعتهم
********
(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا)
(زُيِّنَ) فعل ماض (وَيَسْخَرُونَ) فعل مضارع
كان الطبيعي أن تأتي "سخروا" في الماضي، كما جائت "زُيِّنَ" في الماضى
ولكنه تعالى قال (يَسْخَرُونَ) في المضارع ليدل على أن الكافر والعاصى سيظل يسخر من المؤمن الى يوم القيامة
(زُيِّنَ) فعل ماض (وَيَسْخَرُونَ) فعل مضارع، يعنى سيظل الكافر يسخر من المؤمن
********
 (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
كأن الله تعالى يقول اصبروا، فهم يسخرون منكم ف يالدنيا الزائبة، ولكنكم ستكونون فوقهم يوم القيامة
كما قال تعالى في آية أخري (فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ) 
(فَوْقَهُمْ) علو مكانة ودرجة، كما يقول موظف، أنا فوقي فلان وتحتى فلان
وكذلك (فَوْقَهُمْ) علو موضع، لأن المؤمنين في الجنة، والكافرين في النار، والجنة عالية في السماء، قال تعالى (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) والنار في أسفل سافلين، قال تعالى (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ)
********
عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وقفت على باب الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين"
عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: " مر رجل على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال لرجل عنده جالس ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس: هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع، وأن قال أن يسمع لقوله، فسكت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 
ثم مر رجل آخر فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ما رأيك في هذا ؟ فقال: يا رسول الله إن هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : هذا خير من ملء الأرض مثل هذا
********
انظر الى دقة الأداء القرآني، كان الطبيعي أن يقول تعالى (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ولكنه تعالى قال (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُونِينَ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، الذين يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا، يعتقدون أنهم في زمرة المؤمنين، لمجرد أن اسمائهم محمد أو أحمد أو فاطمة، أو لمجرد أنه مكتوب مسلم في خانة الديانة في البطاقة، فيبين الله تعالى لهم بهذا التعبير الدقيق (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أن العبرة في الآخرة بالإيمان الذي تصحبه التقوي والعمل بما يقتضيه الايمان، وليس مجرد الايمان باللسان فقط
********
 (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
وصف الله تعالى نفسه في القرآن العظيم في أكثر من موضع بأنه تعالى (يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
لماذا يَرْزُقُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ؟ لأن الذي يعطي يحسب حتى لا يتجاوز في عطائه ما يجحف به، فيحصى ما يعطي ويحصى ما تبقي، ولكنه تعالى تعالى غَيْرُ خَائِفٍ بِعَطَائِهِ من نَفَادَ خَزَائِنِهِ، وَلَا انْتِقَاصَ شَيْءٍ مِنْ مُلْكِهِ، ولذلك فهو لا يَحْتَاجُ إِلَى حِسَابِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا
ولذلك فضيلة الشيخ الشعرواي كان يقول: الحساب إنما يأتي عندما تأخذ معدوداً من معدود، ولكن الله عندما يعطي فانه يعطي معدودًا من غير معدود 
وأيضًا هو تعالى يَرْزُقُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، لأنه لا توجد سلطة أعلى منه تقول له: لماذا أعطيت فلانا ؟ ولماذا حرمت فلانًا
أو أن الله تعالى سيرزق هؤلاء المتقين يوم القيامة في الجنة بغير حساب، كما قال تعالى في سورة غافر (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)
********
ما مناسبة قوله (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) في هذه الآية ؟ 
نقول أن الله تعالى أخبر في هذه الآية أن الكافرين يسخرون من المؤمنين لأنهم أغنياء والمؤمنين فقراء، فيخبر تعالى لأنه تعالى (يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) يعنى هو تعالى قادر على أن يرزق المؤمن ويمنع الكافر، ولكنه يرزق الكافر في الدنيا لأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها شربة ماء
وانما يعطي –سبحانه وتعالى- هذا ويمنع هذا انما هو لحكمة، فقد يعطي الكافر استدارجًا، وقد يمنع المؤمن لأن هذا يصلحه، أو ابتلاء يرفع به درجته