Untitled Document

عدد المشاهدات : 2201

الحلقة (128) من" تدبر القُرْآن العَظِيم" تدبر الآية (213) من سورة البقرة، قول الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي

  تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الثامنة والعشرون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (213) من سورة البقرة
********
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) 
********
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ) 
تقدير الكلام هو: 
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً على الهدي، ولكنهم اخْتَلَفُوا بعد ذلك بين ضالٍ ومهتدٍ، ومن أجل ذلك بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
قال العلماء أن الحرف (كَانَ) لا يعنى هنا الْمُضِيِّ والانقضاء، وانما يعنى الثُّبُوتِ، كما قال تعالى في أكثر من موضع في القرآن العظيم (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا(
فالمعنى أن الناس يكونون على الهدى جميعًا، متفقين على توحيد الله، ملتزمين بشرع الله، ثم يظهر الضلال بين الناس ويكثر، فيختلف الناس بين ضالٍ ومهتدٍ، وحين يحدث هذا الاختلاف، يبعث الله تعالى اليهم الأنبياء، ليبشروا من اهتدى منهم بجزيل الثواب، ولينذروا من ضل بسوء العذاب
وقد حدث هذا في عهد آدم ثم لأجيال بعده، قيل أنها ثلاثة أجيال من أبناء آدم كانوا كلهم على الايمان، أو أن أكثرهم على الايمان، ثم زاد الضلال جيلًا بعد جيل، حتى غلب الضلال، فأرسل الله تعالى اليهم نوح –عليه السلام-
ثم كان أصحاب سفينة نوح كلهم مؤمنين، وظلوا مؤمنين لعدة أجيال بعد نوح، ثم ضلوا فبعث الله هُود، وهكذا
والعرب مثلًا كانوا على دين إبراهيم ثم عبدوا الأصنام، فبعث الله الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وهكذا جرت سنة الله تعالى مع جميع الأمم، كلما كان الناس على ضلال أو كان أهل قرية أو قري على الضلال، أرسل الله تعالى لهم الأنبياء
 

كان أصحاب سفينة نوح كلهم مؤمنين
. ********
يقول تعالى (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) 
أي مُبَشِّرِينَ من آمن بالجنة وَمُنْذِرِينَ من كفر بالنار 
(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ) أي أَنْزَلَ مَعَ الأنبياء الْكِتَبَ، وعدد الكتب التى أنزلها الله تعالى غير معروف، ولكن قيل أنها مائة كتاب، وقيل ير ذلك، ولكن الظاهر أنه لم يكن لكل نبي كتاب، ولكن حكم بعض الأنبياء بكتاب نبي قبله  
وذكر -سبحانه- الْكِتَابَ بصيغة المفرد للإِشارة إلى أن كتب النبيين وإن تعددت إلا أنها في جوهرها كتاب واحد، فأصول العقيدة واحدة، والخلاف في تفاصيل الأحكام وفروعها
(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ)
(بِالْحَقِّ) أي أن هذه الكتب اشتملت على الأخبار الحق، واشتملت على الأحكام والشرائع التى تحكم بالحق
(لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي ليفصل الله تعالى بهذا الْكِتَابَ بين الناس فيما اختلفوا فيه من شئون دينيهم ودنياهم
وهذا تنبيه للناس إلى أن من الواجب عليهم أن يرجعوا إلي كتاب الله عند كل اختلاف، لأن هذا هو المقصد الأساسي من إنزال الكتب السماوية .
(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) أي وَمَا اخْتَلَفَ في الكتاب، أوَ مَا اخْتَلَفَ في الحق 
(إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) هؤلاء الذين اختلفوا في الكتاب وفي الدين ليس عَنْ جَهْلٍ مِنْهُمْ بالكتاب، ولكن الذين اختلفوا في الكتاب، هم الذين أُوتُوا الكتاب، أي هم الذين علموا الكتاب، ووقفوا على تفاصيله
يقول الآلوسي: عبر تعالى عن الإنزال بالإيتاء للإشارة الى تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق، لإن الإنزال لا يفيد ذلك
 (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) زيادة تشنيع عليهم، يعنى هم قد اختلفوا في الكتاب بعد أن ظهرت أمامهم الحجج والدلائل الواضحة الدالة على الحق
 (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) يقول تعالى أن ما حملهم على هذا الاختلاف هو البغي، والبغي هو الحسد الذي وقع بينهم، وطَلَبَ الرِّيَاسَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ .
(فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) فهدى الله الذين آمنوا وصدقوا رسله إلى معرفة الحق الذي اختلف فيه أهل الضلالة
وقال تعالى أن هذا الهدي الى الحق (بِإِذْنِهِ) أي بفضل توفيقه لهم وتيسيره
(وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
(وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) أي أن اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ هدايته (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) اي الى طريق الحق
********
هذه الآية الكريمة لها تعلق بالآية السابقة، لأن الآية السابقة تحدث الله تعالى فيها عن سبب اصرار الكفار على كفرهم، وهو تزيين الشيطان لهم الدنيا حتى ظهرت لهم على غير حقيقتها
ثم يبين الله تعالى في هذه الآية أن هذا الأمر غير مختص بهذا الزمان، بل كان حاصلًا في كل الأمم السابقة والأزمنة المتقدمة
********
وهذه الآية الكريمة تتناول تاريخ أطوار الدين بين عصور البشر بكلمات جامعة، أو تاريخ البشرية في تعاملها مع رسالة السماء، منذ آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة 
ولذلك قلنا في بداية الحلقة أن حرف (كَانَ) لا يعنى الْمُضِيِّ والانقضاء، وانما يعنى الثُّبُوتِ، وذلك مثل قول الله تعالى (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا( 
فيخبر تعالى أن الناس يكونون دائمًا جماعة واحدة متفقة على توحيد الله وملتزمة بشرع الله، ثم يكثر الضلال، ويختلف الناس بين ضالٍ ومهتدٍ، وحين يحدث هذا الاختلاف يبعث الله تعالى اليهم الأنبياء، ليُنَبِّهُونَ قَوْمَهُمْ إِلَى مَا غَفَلُوا عَنْهُ، فيبشروا من اهتدى منهم بجزيل الثواب، وينذروا من ضل بسوء العذاب
وأنزل الله تعالى مع هؤلاء الأنبياء الذين بعثهم الكتب المتضمنة لشرع الله تعالى والذي يفصل بين الناس بالحق فيما اختلفوا فيه من شئون دينيه ودنيويه
ويخبر تعالى أن هذا الخلاف لا يكون عن جهل منهم بكتاب الله، ولكنهم  يختلفون عن علم بالكتاب ومعرفة تفاصيله، وذلك ظلمًا وبغيًا وحسدًا، وطَلَبًا للرِّيَاسَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فيهدي الله تعالى مَنْ يَشَاءُ هدايته الى طريق الحق، والله تعالى يوفِّق من يشاء من عباده إلى طريق مستقيم.
********
هذا ملخص تدبر الآية، ولكن ما الذي نستفيده من هذه الآية ؟
ان كل آية من القرآن العظيم، هي رسالة من الله تعالى الينا، أو مجموعة من رسائل الله تعالى الينا، فما هي رسالة الله الينا في هذه الاية الكريمة
هناك رسالة عامة للأمة، وهناك رسالة خاصة لك واحد فينا
أما الرسالة العامة: 
فهي تحذير الأمة الاسلامية من الاختلاف
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ ؟ قَالَ الْجَمَاعَةُ
والْجَمَاعَةُ هي ما كان عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه في العقيدة والعمل .
وأكبر مشكلة تواجه الأمة الاسلامية الآن هي الاختلاف، عندنا اختلافات جوهرية وخطيرة بين السنة والشيعة
من مظاهر هذا الاختلاف تقسيم العالم الاسلامي الى ثلاثة وخمسين دولة، وهو تقسيم من صنع الدول الاستعمارية، وأعداء الاسلام، وتدبير الصهيونية العالمية
ومن توابع هذا التقسيم وجود العداء بين بعض الدول الاسلامية بعضها البعض، وهذا العداء الذي يصل الى الحروب المسلحة في حالات كثيرة
من حماقتنا أن هذا الاختلاف أو هذا العداء قد يكون سببه "لعبة" كرة القدم
 

العالم اسلامي مقسم الى ثلاثة وخمسين دولة
 

من حماقتنا أن العداء قد يكون سببه "لعبة" كرة القدم
********
أما الرسالة الخاصة لكل واحد فينا، فهي أن نتوجه الى الله تعالى بطلب الهداية الى الطريق الحق
ولذلك روي عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان- إذا قام من الليل يصلّي- يقول: اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل! فاطر السموات والأرض! عالم الغيب والشهادة! أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم! 
و كلما قوي إيمان العبد كان أقرب إلى إصابة الحق؛ ولذلك قال تعالى (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) فعلق الله تعالى الهداية على وصف الإيمان
كذلك ينبغي على المرء الذي هداه الله ألا يعجب بنفسه، وألا يظن أن ذلك من حوله، وقوته؛ ولذلك قال تعالى (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ)