Untitled Document

عدد المشاهدات : 5077

الحلقة (129) من" تدبر القُرْآن العَظِيم" تدبر الآية (214) من سورة البقرة، قول الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى ي

  تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة التاسعة والعشرون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (214) من سورة البقرة
********
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
********
 

انتهت الآية السابقة بقول الله تعالى (وَٱللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاء إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) فبين الله تعالى في هذه الآية أن بعد تلك الهداية الى الصراط المستقيم، لابد أن يكون الابتلاء من الله تعالى، ولابد أن يكون الصبر من المؤمنين على هذا الابتلاء من الله تعالى  
********
(أَمْ) بمثابة ألف الاستفهام، كأن الله تعالى يقول: أحَسِبْتُمْ 
ومعنى "أحَسِبْتُمْ" أي: أظننتم ؟
(أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)
(وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) يعنى: وَلَمْ يَأْتِكُمْ 
(مَثَلُ) يعنى شبه
(مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)
أي: شبه الذي أصاب الذين من قبلكم من البلاء
(مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) 
هذا يطلق عليه "استئناف" كأنه قيل: كيف مثل الذين خلوا من قبلنا ؟ فيكون الجواب: مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
(مَسَّتْهُمُ) أصابتهم وحلت بهم (الْبَأْسَاءُ) هي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر وضياع المال والتعرض للنصب وغير ذلك  (وَالضَّرَّاءُ) ما يصيب الناس في الأنفس كفقدان الأعزاء والمرض أو فقدان البصر مثلًا أو الاصابة بعاهة أو غير ذلك
وهنا عبر تعالى بقوله (مَسَّتْهُمُ) للإشارة الى أن تلك الشدائد والابتلاءات أصابتهم بالآلام في حواسهم وأجسادهم، ولكنها لم تضعف إيمانهم، لأن المس يعنى اتصال جسم بجسم آخر. 
ولذلك قال أيوب –عليه السلام- في مناجاته الى ربه (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) يعنى يا رب هذا الضر وهذا الابتلاء أصابنى بالآلام في جسدي فقط، ولكنه لم يمس ايماني بك، ولا رضاي عن ربي، ولا ثقتى في ربي
(وَزُلْزِلُوا)  أصل الزَّلزلة من زَلّ الشيء عن مكانه؛ أي حركه من مكانه، فإذا قلت: زلزلته فمعناه كررت تحريكه من مكانه، فالزلزلة هي شدة التحريك، وهي تكون في الأشياء كزلزلة الأرض، وتكون في الأحوال أيضًا كما في هذه الآية
(حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ) 
(الرَّسُولُ) هنا هو كل رسول بعث الى أمته، وأجهد وأصابه البلاء حتى قال مستبطئًا النصر الذي وعده الله به: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ؟
وهذا يدل على شدة البلاء وشدة الجهد، لأن رسل الله تعالى، هم نماذج الكمال البشري، وهم خير الخلق وأكثرهم صبرًا، وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِاللهِ تَعَالَى وَأَشَدُّهُمُ اتِّكَالًا عَلَيْهِ وَتَسْلِيمًا لَهُ.
ليس ذلك فحسب بل ان الذين آمنوا مع كل رسول هم أفضل الأجيال في أمته
فاذا كان الرسول نفسه، ومن معه من المؤمنين استبطئوا النصر، وضجوا، حتى لم يبق بينهم وبين اساءة الأدب مع الله الا شعرة، فهذا يدل على شدة البلاء وعلى شدة ما هم فيه من ألم
********
وقد ذهب أكثر المفسرون الى أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق، حين حاصر العرب المدينة المنورة، وكانت هذه الفترة من أحرج فترات الدعوة الاسلامية، وقيل أنها نزلت في غزوة أحد، وقيل أنها نزلت في المهاجرين، أي ما لاقاه الصحابة في فترة الدعوة المكية
والواقع أن فترة الدعوة الاسلامية منذ بعثة الرَسُولُ وحتى وفاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانت سلسلة من الابتلاءات
والقاعدة الأصولية أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية تدعو المؤمنين في كل زمان ومكان إلى التذرع بالصبر والثبات تأسيا بمن سبقهم من المتقين حتى يفوزوا برضوان الله -تعالى - ونصره.
********
(أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)
هذه الجملة فيها أربعة مؤكدات:
1- أن الجملة اسمية وليست فعلية، والتعبير بالجملة الاسمية يدل على التأكيد
2- أدة الاستفتاح (أَلَا) والتي تفيد التأكيد
3- (إِنَّ) الدالة على التأكيد أيضاً.
4- اضافة النصر الى الله تعالى القادر على كل شيء، فقال تعالى (نَصْرَ اللَّهِ)
والجملة لا تحتاج الى التأكيد أصلًا لأنها جملة صادرة من الله تعالى، والمتكلم هو الله، فهي لذلك لا تحتاج الى التأكيد، قال تعالى (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ) وقال تعالى (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) 
ولكنه تعالى برحمته وتطييبًا وتثبيتًا لقلوب المبتلين من عباده المؤمنين، لم يكتف بأن وعدهم بالنصر، ولكنه تعالى أكد لهم كلامه بأربعة مؤكدات
********
عَنْ خَبَّابٍ  بن الأرت قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا ؟ فَجَلَسَ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  وقال: "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ، وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ"
وقد ذكر لنا القرآن العظيم قصة أصحاب الأخدود الذين أحرقوا أحياء، فلم يصدهم ذلك عن دينهم
يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه، فينظر إليهم قنطين، فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجهم قريب"
يقول وهب بن منبه, وكان غزير العلم في الاسرائيليات "وجد فيما بين مكة والطائف سبعون نبيّاً موتى، كان سبب موتهم الجوع والقُمّل"
 فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا ؟
********
اذن معنى الآية: يخبر الله تعالى عباده المؤمنين أنهم لن يدخلوا الجنة بمجرد الايمان به تعالى، وليس بِمُجَرَّدِ الِانْتِمَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وانما يجب عليهم حتى يصلوا الى الجنة، أن يختبرهم الله بأنواع البلاء في الأموال والأنفس 
كما قال تعالى فِي سورة العنكبوت: (الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(.
وكما قال الرَسُولُ "حفت الْجَنَّةُ بَالمكَارِهِ"
ويطيب الله تعالى قلوب عباده المؤمنين، فيخبرهم تعالى أن هذا الأمر ليس خاصًا بهم، بل هو من سنن اللهِ تَعَالَى مع عباده من أَنْصَارِ الْحَقِّ وَأَهْلِ الْهِدَايَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وأنه تعالى أصاب المؤمنين من الأمم السابقة بأنواع البلاء في الأموال والأنفس، وطال عليهم أمد البلاء جدًا، حتى وصل الأمر أن يقول الرسل، وهم أكثر الناس صبرًا، وأعلمهم بالله تعالى، ويقول الذين آمنوا معه وهم أفضل الأجيال في أمته: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ؟ وهذا يدل على شدة ما وقعوا فيه من البلاء، ويدل على طول أمد البلاء، لدرجة أنهم استبطئوا النصر الذي وعدهم الله تعالى به، فقالوا (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)
ولكن الله تعالى يطمئن عباده المؤمنين بأنه تعالى قد تكفل بأن يجعل العاقبة للمتقين، بل تكفل بأن يكون النصر الذي وعدهم به قَرِيبٌ وليس بعيد، فيقول تعالى مؤكدًا كلامه بأربعة مؤكدات: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)
 ********
هناك نقطة هامة، أن الله تعالى لم يتكفل بأن يري جميع المؤمنين نصر الله، وان كان قد تكفل أن يقع نصر الله حتمًا
فليس جميع المسلمين قد رؤوا نصر الله، "سمية بنت الخياط" أول شهيدة في الاسلام لم تر نصر الاسلام، وزوجها "ياسر بن عامر" لم ير نصر الله، أمنا العظيمة السيدة خديجة لم تر نصر الله، الكثير من الصحابة الذين استشهدوا او حتى ماتوا قبل بدر وقبل الهجرة لم يروا نصر الله
لنتأمل مثلًا قصة تارخية معروفة وهي فتح القدس على يد "صلاح الدين الأيوبي" استغرق فتح القدس أكثر من ثمانين سنة، واستشهد الآلاف في خلال هذه السنون الثمانين، في مواجهات عديدة، وكل هؤلاء لم يروا نصر الله 
في الأمم السابقة، نوح –عليه السلام- لبث في قومه تسعمائة وخمسون عامًا، تعاقب عليه ثلاثة أجيال، وكان فيهم مؤمنين، فهذه الأجيال المؤمنة لم تعاصر الطوفان، ولم تر نصر الله 
والأمثلة كثيرة، فاذن لا يأتي أحد يقول: كل هؤلاء لم يروا نصر الله وقد وعدهم الله تعالى بالنصر.
نقول لم يعد الله تعالى أن يري كل مؤمن نصر الله، ولكن الوعد أن يتحقق وأن يقع نصر الله تعالى 
ونحن نقول هذا الكلام، حتى تعلم وأنت في جهادك في طريق الحق، لأنك طالما أنك في طريق الحق، فلابد أن تكون في صراع مع الباطل، لأن الحياة صراع لا يتوقف بين الأخيار والأشرار، وبين الأطهار والفجار، وهذا من سنن الله تعالى في خلقه منذ الجيل الأول، والصراع بين ابنى آدم قابيل وهابيل
اذن وأنت في جهادك في طريق الحق، ليس مطلوبًا منك تحقيق النصر أو التمكين، ولكن المطلوب منك السعي لتحقيق هذا النصر وهذا التمكين
أما الذي يحقق النصر فهو الله تعالى، وسيأتي به الله تعالى حتمُا في الموعد الذي قدره سواء كنت حيًا فتراه، أو ميتًا فيراه أبنائك واخوانك
ليس مطلوبًا منك تحقيق النصر ، ولكن المطلوب منك السعي لتحقيق هذا النصر 
********
نقطة أخري أن فترة النصر والتمكين في الأرض التى وعد الله تعالى بها عباده المؤمنين دائمًا تكون بالنسبة لفترة البلاء والشدة قصيرة
في قصة نوح مثلًا كانت فترة البلاء والشدة تسعمائة وخمسون سنة، وكانت فترة التمكين لنوح عليه السلام خمسون سنة 
لم تكن هناك فترة تمكين في حياة موسي أو عيسي
فترة التمكين في حياة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حوالى عامين، بينما قضى واحد وعشرين عامًا في شدة
والأمثلة والمشاهدات في حركة التاريخ بعد ذلك كثيرة لا حصر لها.. الخلافة الراشدة لم تستمر الا ثلاثون سنة فقط، قطز قتل بعد أقل من عام من نصره في "عين جالوت".. "ألب أرسلان" قتل بعد أقل من عامين من انتصاره.. صلاح الدين لم يستمتع بانتصاره في "حطين" الا أقل من عام.. وهكذا..
والسبب أن المؤمن يكون في فترة البلاء أقرب الى الله تعالى، ولذلك من رحمة الله تعالى بنا أنه تعالى يقصر لنا زمن التمكين، ويطيل علينا زمن الإبتلاءات والشدة، حتى نظل قريبين منه فننجو 
ولذلك أقول لك انتهز فرصة أنك في زمن الاستضعاف، لأنك وأنت في زمن الاستضعاف تستطيع أن تقترب من الله تعالى ما لا تستطيعه اذا عشت زمن التمكين 
وأنت في زمن الاستضعاف يمكن أن تصل الى حالة ايمانية، يصعب جدًا أن تصل اليها الا في زمن الاستضعاف