Untitled Document

عدد المشاهدات : 3240

الحلقة (163) من تدبر القُرْآن العَظِيمن تدبر الآية (266) من سورة البقرة، قول الله تعالى: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ

 تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الثالثة والستون بعد المائة الأولى
تدبر الآية (266) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بعد أن ضرب الله تعالى مثلًا عن الصدقة التى يتبعها من وأذي، ثم ضرب مثلًا عن الصدقة التى يريد بها صاحبها وجه الله تعالى
يعود القرآن العظيم فيضرب مثلًا ثالثُا عن الذي يضيع ثواب صدقتة سواء بسبب المن والأذي أو بسبب الرياء 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
فيقول تعالى (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) يعنى أيحب أَحَدُكُمْ 
(أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) والجنة هي البستان كثير الشجر 
(مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) هذا البستان به أشجار نخيل وأشجار عنب 
(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أي تجري العيون من تحت شجرها، وهذا يعنى أن صاحبها لا يبذل أي جهد في سبيل ريها 
(لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) يعنى ليست أشجار البستان من نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ فقط، ولكن فيها غير ذلك من أنواع الأشجار والثمار 
(وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ) يعنى أمتد به العمر حتى أصبح شيخًا كبيرًا (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ) أي له أبناء صغار، اذن فمعيشته ومعيشة أبناءه من ثمار هذا البستان 
(فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ) أي أَصَابَ بستانه إِعْصَارٌ، والاعصار هي الريح التى تَهُبُّ بشدَّةٍ، وترتفِعُ كالعمود إِلى السماءِ ، وقد سمي الاعصار بهذا الاسم لأنها تلتف كالثوب إذا عصر 
(إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ) هذا الإعصار الذي أصاب البستان فيه نار، وهو ما يطلق عليه العلماء الآن "الاعصار الناري" (فَاحْتَرَقَتْ) فأحرق هذا الاعصار جميع الأشجار التى في البستان
(جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ)
(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)
(لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ووجه الشبه أن هذا البستان مثال لثواب الصدقة العظيم يوم القيامة، والإعصار الذي فيه نار أحرقت البستان مثال للمن أو الأذي أو الرياء الذي يضيع ثواب الصدقة
فكما أن هذا الاعصار الناري يحرق البستان، فكذلك المن أو الأذي أو الرياء يضيعوا ثواب الصدقة
وكما أن صاحب البستان في أمس الحاجة الى هذا البستان، لأنه قد أَصَابَهُ الْكِبَرُ فلا يستطيع أن يعمل ويتكسب، وابناءه صغار فلا يستطيعون العمل، فمعيشته ومعيشة أبناءه من ثمار هذا البستان، اذن فهم احوج ما يكونون الى هذا البستان، فكذلك المرء يوم القيامة يكون في امس الحاجة الى حسنات صدقته 
وكما أن صاحب هذا البستان لا يستطيع أن يعوض خسارته في هذا البستان، ولا يستطيع اصلاحها أو احياءها أواعادة زراعتها لكبر سنه وضعف ذريته، فكذلك المرء يوم القيامة اذا أضاع ثواب صدقته، فانه لا يستطيع أن يعوض خسارته لأنه لا يمكن أن يعود الى الدنيا مرة اخري. 
وقوله تعالى (إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) هذا الاعصار الذي يطلق عليه العلماء الآن "الاعصار الناري" تكون مدته لثواني أو دقائق، ولكنه يحدث دمارًا هائلاً لكل ما يلاقيه في طريقها.
وهذا هو الحال من يضيع ثواب صدقته بالمن أو الأذي أو الرياء، اذ أن كلمة واحدة يمكن أن تضيع هذه الحسنات العظيمة المضاعفة في لحظة واحدة.
(فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن التشبيه في غاية الروعة: تشبيه رجل يفقد كل شيء في لحظة واحدة، وهو في أمس وأحوج ما يكون اليها، لأن معيشته هو وأهل بيته عليها، وهو لا يستطيع أن يعوض خسارته لأنه شيخ كبير، وأبناءه صغار
وكذلك المرائي يوم القيامة يفقد كل ثواب صدقته، وهي أضاعفًا مضاعفة، وهو في أمس الحاجة لحسنة واحدة، ولا يستطيع أن يعود الى الدنيا ويعوض خسارته  
يقول الشاعر
إنْ لـــم يـــكن للهِ فـــعلك خـــالصًا ..
فـــكلّ بنــــاءٍ قــــد بـــنيْتَ .. خــــرابُ
(فَاحْتَرَقَتْ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 قال عمر بن الخطاب‏:‏ قرأت الليلة آية أسهرتني ‏(‏أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب‏)  ‏ فقرأها كلها ثم قال‏:‏ ما عنى بها‏؟‏ فقال بعض القوم‏:‏ الله أعلم‏!‏ فقال‏:‏ إني أعلم أن الله أعلم، قولوا نعلم أو لا نعلم
فقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ خَلْفَهُ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ‏:‏ فَتَلَفَّتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ ابن أخي تَحَوَّلْ هَهُنَا، لِمَ تُحَقِّرُ نَفْسَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏قال ابن عباس رضي الله عنهما: ضربت مثلاً لعمل، فقال عمر رضي الله عنه: أي عمل؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ضربت مثلاً لعمل المرائي
فقال عمر: صدقت يا ابن أخي
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كان الإمام على زين العابدين بن الإمام الحسين رضى الله عنهما يخرج كل ليلة متخفيًا يحمله على كتفه الطعام ويضعه على ابواب بيوت الأرامل واليتامي والفقراء ويطرق الباب ثم ينصرف، وظل فقراء المدينة سنوات طويلة يأتيهم هذا الطعام ولا يدرون من أين يأتيهم، حتى مات الإمام "على زين العابدين" وانقطع الطعام الذي كان يأتيهم فعلموا أنه الذي كان يحمله اليهم
وعندما غسلوه وجدوا آثار الحبال التى كان يحمل بها الطعام على كتفه وظهره
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قال ابن حزم رحمه الله : أكثروا من قول "لا إله إلا الله" فإنها ألفاظ تتم بحركة اللسان دون حركة الشفتين، فلا يشعر بذلك الجليس .
أكثروا من قول "لا إله إلا الله"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كان بعضهم يجلس في بيته يقرأ في المصحف فاذا دخل عليه أحد غطي المصحف حتى لا يري أنه يقرأ القرآن
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
"داوود بن أبي هند" وهو من كبار علماء التابعين، صام أربعين سنة دون أن يعلم أهل بيته، فكان يخرج كل يوم الى عمله ويأخذ معه غداءه، فيتوهمون أنه مُفطِر، فيتصدق به في الطريق، ثم يرجع آخر النهار إلى أهله ويأكل معهم.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أحد التابعين يقول: لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفاً من الرياء.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كان القائد العسكري الأموي "مسلمة بن عبد الملك" يحاصر بجيشه قلعة عظيمة من قلاع الروم، وكانت القلعة مستعصية على جيش المسلمين، وأخذ الرومان يقذفون جيش المسلمين من أعلى، حتى انهك الجنود المسلمين
وفي الليل قام أحد الجنود المسلمين وذهب بمفرده حتى وصل الى القلعة وأخذ ينقب في سور القلعة بجوار باب القلعة حتى استطاع أن يحدث به فتحة صغيرة يمكن أن يمر منها شخص واحد، وعاد دون أن يخبر أي أحد، وفي اليوم التالي بدأ المسلمون القتال كعادتهم، ودخل هذا البطل الى الحصن بمفرده من الفتحة التي أحدثها في الليل، وظل يقاتل حتى فتح باب الحصن من الداخل، ودخل جيش المسلمين من الباب ودار قتال عنيف تحقق فيه النصر للمسلمين.
دخل البطل الى الحصن بمفرده وظل يقاتل حتى فتح باب الحصن 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وبعد المعركة جمع القائد "مسلمة بن عبد الملك" الجيش وقال: 
- مَن أحدث النقب في جدار القلعة فليخرج لنُكافئه
ولكن لم يخرج أحد، وانتظر الى الغد فلم يأته أحد، فعلم أنه لا يريد مكافأة، ثم جمع الجيش في اليوم التالي، ونادي:
- من أحدث النقب في جدار القلعة فليخرج.
ولكن لم يخرج أحد، وانتظر الى الغد فلم يأته أحد، فلم أنه لا يريد شهرة، فجمع الجيش في اليوم الثالث، ونادي:
- أقسمتُ على من أحدث الـنقب أن يأتيني أي وقت يـشاء من ليل أو نهار
فلما كان الليل والقائد في خيمته، دخل عليه رجل ملثم، وقال له:
- إنَّ صــاحب الــنقب يـــريد أن يـــبر قـــسم أمـــيره ولــكن لــديه ثـــلاثة شـــروط حــتى يـــلبيَ الـــطلب
فقال فـــقال مـــسلمة : 
- ومـــا هـــي
قال الرجل الملثم: 
أنْ لا تـــسأل عـــن اســـمه ، ولا أن يـــكشف عـــن وجـــهه ، ولا أن تــأمر لـــه بـــعطاء.
قال مسلمة:
له ما طلب
قال الرجل:
أنا صاحب النقب
ثم انصرف مسرعًا ودخل في الجيش
فكان مسلمة بعد ذلك يقول في سجوده: : اللهـــم احـــشرني مـــع صـــاحب الـــنقب ، اللهـــم احـــشرني مـــع صــاحب
 

قال الرجل: أنا صاحب النقب
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
بالرغم من أن "مسلمة بن عبد الملك" كان من أعظم القادة العسكريين، حتى ان بعض المؤرخون يقارنونه بالقائد العظيم "خالد بن الوليد" في كثرة حروبه، وانتصاراته الدائمة، وشدة بأسه وشجاعته، وكان يغزو كل سنة مرة وأحياناً مرتين في السنة، وشملت فتوحاته سبعة بلدان، ومع ذلك كل طموحه أن يحشر مع هذا الجندي البسيط في جيشه الذي لا يعرفه أحد، لأنه مدرك لقضية الاخلاص
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه الآية تبهنا كذلك الى حيلة من ألاعيب الشيطان الرجيم، فالشيطان اذا لم يستطع يمنعك من الطاعة، فانه يحاول أن يفسد عليك طاعتك.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ذكر الله تعالى النخيل والأعناب مجتمعين في أكثر من موضع من القرآن العظيم، لأن نظام المزارع أن الشجرة الضعيفة مثل العنب تكون محاطة باشجار قوية مثل النخيل حتي تحميها من هبوب الرياح
العنب ذكر في القرآن الكريم، في أحد عشر موضعاً، وذلك في معرض تعداده للنعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده سواء في الدنيا أو في الجنة.
وهذا يلفتنا الى الأهمية الغذائية الكبيرة للعنب، سواء طازجًا أو مجففًا وهو الزبيب، وهذا من الأمور التى تحدث فيها العلماء كثيرًا في السنوات الأخيرة
وهو أمر يطول فيه الكلام، ولكن نذكر فقط أن العالم الانجليزي McFadden لفت الأنظار إلى أن الإصابة بالسرطان تكاد تكون معدومة في المناطق التي يكثر فيها إنتاج العنب مما يشير إلى أن للعنب أثراً واقياً من السرطان.
 

McFadden
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قول الله تعالى (إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ) تعبير يصف ظاهرة طبيعية، هذه الظاهرة يطلق عليها العلماء الآن "الاعصار الناري" أو Fire Tornado وهو عبارة عن اعصار له حركة دورانية يتكون من عامود من الهواء والنار، وقد لا تتجاوز مدة هذا الاعصار عشرات الثواني أو الدقائق, ولكن يحدث دماراً هائلاً لكل ما يلاقيه في طريقه
العجيب أن العلماء لم يرصدوا هذه الظاهرة الطبيعية لأول مرة الا في عام 2003 لأنها ظاهرة نادرة الحدوث، ولأنه يصعب التمييز بينها وبين حرائق الغابات 
ولولا تطور أجهزة القياس والتصوير لما أمكن للعلماء رصد هذه الظاهرة
ومع ذلك جاء القرآن العظيم -منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة- بوصف هذه الظاهرة بكلمات قليلة وبدقة شديد، في وقت لم يكن أحد على وجه الأرض يعلم عنها أي شيء
 

يصعب التمييز بين الإعصار الناري وبين حرائق الغابات 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الأعجب أن الله تعالى ذكر أن هذا الإعصارالذي فيه نار أصاب (جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) وقد قال العلماء الآن الذين قاموا بدراسة هذه الظاهرة أن اعصار النار يصيب الغابات ذات الأشجار الكثيفة
اذن فالقرآن الكريم لم يخبرنا عن إعصار النار فقط ولكن حدد لنا أيضًا مكان ظهور هذا النوع من الأعاصير، وهي الأماكن التي تكون فيها أشجار كثيفة  
الأمر الثالث أن القرآن العظيم استخدم حرف الفاء لوصف مشهد احراق البستان فقال تعالى (فَأَصَابَهَا) ثم قال (فَاحْتَرَقَتْ) والفاء في اللغة العربية تدل على السرعة والمباغتة، وهذا ما يحدث بالضبط في حالة اعصار النار، لأن الإعصار يتشكل بشكل مفاجيء، ويحرق الأشجار بسرعة كبيرة
حيث بينت الدراسات أن هذا النوع من الاعصار يسير بسرعة تبلغ أكثر من 30 كيلو متر في الساعة، ويمكنها ان تحرق بستان كبير طوله خمسة كيلو مترات خلال عشرة دقائق فقط
كل هذا يدل على أن هذا القرآن العظيم ليس صناعة بشرية وانما هو كلام الله تعالى الذي أنزله على نبيه الكريم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 
الاعصار الناري Fire Tornado