Untitled Document

عدد المشاهدات : 1719

الحلقة (171) من " تدبر القُرْآن العَظِيم" تدبر الآيتين (280) و(281) من سورة البقرة، قول الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ

 تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الواحد والسبعون بعد المائة الأولى
تدبر الآيتين (280) و(281) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(مَيْسَرَةٍ) بفتح السين، قرأت (مَيْسُرَةٍ) بضم السين.
(تَصَدَّقُوا) بقتح الصاد، قرأت (تَصَّدَّقُوا) بتشديد الصاد، أصلها تتصدقوا؛ وأدغمت التاء في الصاد.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قلنا أن الربا شرعًا: هو زيادة على أصل المال يأخذها الدائن من المدين مقابل الأجل.
وقلنا أن صورة ذلك في الجاهلية : 
أن الرجل كان يشتري أرضًا أو ابلًا أو فرسًا أو غير ذلك بالأجل، يعنى يسدد الثمن بعد ثلاثة اشهر أو ستة أو غير ذلك، فاذا حل الأجل قال له: اما ان تقضى واما أن تربي، يعنى اما ان تعطينى الثمن الآن كما اتفقنا، واما أن تربي، يعنى أو تزيد في الثمن، ونؤخر الأجل، فاذا كانت القيمة مائة درهم تكون مائة وعشرون، ونؤجل السداد ثلاثة أشهر أخري، فهذه الزيادة في مقابل الأجل الجديد.
فاذا كان الذي عليه الدين لا يستطيع الوفاء بالدين فانه يضطر الى أن يزيد في الدين في مقابل أن يؤخر له صاحب الدين في الأجل.
ونزلت الآيات السابقة لتحرم وتجريم هذا النوع من التعامل لأن فيه استغلال لحاجة الفقير، ولأن من شأنه أن يزيد الفقير فقرًا، ويزيد الغنى غنى.
اذن ما هو التصرف، اذا حل أجل السداد، وكان المدين معسرًا، لا يستطيع أن يسدد الدين الذي عليه في موعده ؟
الإجابة في هذه الآية الكريمة يقول الله تعالي: 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ) يعنى اذا كان المدين معسرًا ولا يستطيع الوفاء بالدين
(فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) يعنى تؤخر عليه الدين، ولكن دون أن تزيد عليه الدين.
(نَظِرَةٌ) من الإِنظار بمعنى الإمهال، 
(قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يعنى اخرني الى يوم القيامة.
 (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وَأَنَّ تَتَصَدَّقُوا باصل الدين أو بجزء منه عَلَى هَذَا الْمُعْسِرِ، ‏"‏خَيْرٌ لَكُم‏"‏ وأكثر ثوابًا مِنْ أَنْ تُنْظِرُوهُ إِلَى مَيْسَرَتِهِ
(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعنى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بالجزاء المترتب على هذا الفعل، فافعلوا هذا الأمر ولا تتباطئوا في فعله.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
من الألغاز يقولون: سنة افضل من واجب.
كيف تكون السنة أفضل من الواجب ؟
نقول امهال المعسر واجب، والصدقة عليه سنة.
والصدقة عليه افضل من امهاله، ولذلك فالسنة هنا أفضل من الواجب.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهناك العديد من الأحاديث النبوية التي تحض على إمهال المعسر، والتجاوز عما عليه من ديون .
روى الطبراني عن أسعد بن زرارة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله فليسير مع معسر أو ليضع عنه" .
وروى الإِمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر ".
في الصحيحن عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال : تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَقَالُوا : هل عَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا ؟ قَالَ: لَا، قَالُوا: تَذَكَّرْ ، قَالَ: كنت أبايع الناس في الدنيا، فكنت أنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر، فقال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لو عملنا بهذه الآية وحدها لسلمت أحوال الناس من المشاكل: 
نجد دائنين، اذا حل الأجل ولم يسدد المدين، فانه يلجأ للقضاء فورًا، ويسجن المدين، أو يسجن الضامن، وغالبًا يشترط أن يكون الضامن زوجته، حتى يؤلمه، ولا يكتفي بذلك بل يسجنه عدة مرات، لأنه قد أخذ عليه عدة ايصالات أمانة، لأن سداد الدين بالأجل، لمدة اربعة وعشرون شهر مثلًا، وكلما تسدد قسط أعطيك ايصال، فاذا أعسر ولم يستطع السداد فانه يحرك ضده قضية بايصال أمانه واحد، وهي قضية جنحة خيانة أمانة، ويسجنه لمدة ثلاثة سنوات، فاذا قضى العقوبة وخرج من السجن، يحرك قضية جديدة بايصال أمانة آخر وهكذا 
وفي المقابل نجد شخص عنده مال يماطل في أداء ما عليه من أموال، يقول الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ" يعنى عنده ما يستطيع أن يسدد به، ولكنه يماطل في السداد، يأتيه صاحب الحق يقول: اقضني حقي؛ فيقول: غداً؛ ويأتيه غداً فيقول: بعد غد؛ وهكذا؛
نجد دائنين، اذا حل الأجل ولم يسدد المدين، فانه يلجأ للقضاء فورًا، ويسجن المدين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مَنْ حَبَسَ مُعْسِرًا فِي السِّجْنِ، فَهُوَ آثَمٌ، لِقَوْلِهِ: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤَدِّيَ عن دَينَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، كُتِبَ ظَالِمًا.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
رجل قص قصته، أنه كان يعمل مدير اقليمي لأحد سلاسل المطاعم الشهيرة وكان راتبه ضخم جدًا، ويعيش هو واسرته حياة رغدة، أبناءه في مدارس انترناشيونال، يمتلك فيلا وسيارات وشاليهات ويخت
المهم أنه قرر أن يستقيل من عمله، ويقوم هو بانشاء سلسلة مطاعم بيتزا خاصة به، وبالفعل قام باستأجار محل في مول شهير عندنا في مصر اسمه "جنينة مول" 
ولكنه –وبرغم خبرته الطويلة في هذا العمل- فانه فشل، وتراكمت عليه الديون بالملايين، وباع كل ما يملك: باع فيلته وسياراته وخرج ابناءه من المدارس الانترناشيونال، باع كل ما يملك حتى يستطيع أن يسدد ديونه، وكان أكبر دين هو لصاحب المول، وهو دين يقدر بعدة ملايين، لأنه ايجار متراكم لعدة شهور، فلما علم صاحب المول باعساره، اتصل به وقال له أنه قد تنازل عن دينه بالكامل.
هذا الموقف جعله يستطيع أن يقف على قدمه مرة اخري، وغير عمله، وأصبح من أبرز مدربي التنمية البشرية، وأول حاجة بيقولها في أي محاضرة بيلقيها هي قصته مع صحاب جنينة مول، وبيقول دي أقل حاجة اقدمها لهذا الرجل اللى أنقذ حياتي وحياة أسرتي
باع كل ما يملك حتى يستطيع أن يسدد ديونه
.
أحد المشايخ ألقي خطبة في يوم عرفة، وجاء له بعد الخطبة رجل متقدم في السن، وقال له أنه رجل أعمال وله ديون عند الآخرين في المحاكم تقدر بأكثر من مائة مليون ريال، وعدد من هذه الديون في المحاكم، واني أشهدك يا شيخ في هذا اليوم العظيم، أني قد تنازلت عن جميع ديوني عند الآخرين، سواء أكان معسرًا أو موسرًا أوظالمًا أو مخطئًا، فاعتق يارب هذا الشيب من النار. 
ثم لما ذهبوا الى المدينة قال له: حججت ياشيخ عشرات الحجات، اقسم بالله ما ذقت الذ من هذه الحجة
تنازلت عن جميع ديوني عند الآخرين
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281
(تُرْجَعُونَ) بضم التاء، قرأت (تَرْجعون) بفتح التاء
هذه الآية من الآيات المزلزلة في القرآن العظيم
لأن هذه الآية هي آخر آية نزلت من القرآن العظيم، نزلت يوم سبت، وبعدها بتسعة ايام مات الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الاثنين 
وأنا اقول أنها آية مزلزلة، لأنها الرسالة الأخيرة من الله تعالى للبشر
قلنا من قبل أن القرآن العظيم هو رسائل من الله تعالى الينا، كل آية رسالة أو عدة رسالات من الله تعالى الينا.
هذه الرسالة هي آخر رسالة من الله تعالى الينا، ودائمًا آخر رسالة تكون فيها خلاصة ما يريد 
والرسالة واضحة لا تحتاج الى تأويل
(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ) اخشوا هذا اليوم، خافوا هذا اليوم، احذروا هذا اليوم، اجعلوا بينكم وبين هذا اليوم وقاية وحجاب، وهو يوم القيامة الذي سنرجع فيه الى الله تعالى. 
كلمة (تُرْجَعُونَ) يعنى رجوع قسري، أمر ليس في أيدينا.
وكلمة (تُرْجَعُونَ) كأن ارواحنا كانت بين يدي الله عز وجل، ثم ارسلنا الى الدنيا في هذه الرحلة القصيرة جدًا، ثم سنرجع اليه تعالى.
(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) ثُمَّ تعطي كل نفس، جزاء عملها، ان خيرًا فخير، وان شرًا فشر.
(وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) ستوفي عملك كاملًا يوم القيامة، ولن تظلم في مثال ذرة من عملك.
( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (
(وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) آخر كلمة ثم انقطع الوحي بعدها، أنه لا ظلم يوم القيامة، لأن الدنيا مليئة بالظلم، أيها المظلوم اطمئن ليس هناك ظلم يوم القيامة، اذا كانت الحياة الفانية مليئة بالظلم، اطمئن فان الحياة الباقية ليس فيها ظلم.