Untitled Document

عدد المشاهدات : 2206

الحلقة (229) من "تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم" - تدبر الآيات (146) و(147) و (148) من سورة "آلَ عِمْرَانَ" قول الله -تَعَالي- (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ

تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم
الحلقة التاسعة والعشرون بعد المائتين
تدبر الآيات (146) و(147) و (148) من سورة "آلَ عِمْرَانَ"

❇        

 وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
❇        

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ) وكم مِنْ نَبِيٍّ قبل محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا للتكثير.
(قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) رِبِّيُّونَ يعنى منسوبون الى الله تعالى، أي أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ صلحاء
وقيل (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) يعنى جموع كثيرة.
لأن "الرُّبَّةُ"يعنى الجمع الكثير
ومنه اسم "رباب" يعنى قبائل مجتمعة
ولا يمنع أن تجمع بين المعنيين

❇        

(قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) فيها ثلاثة قراءات
(قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) هذه قراءة والمعنى: أي قَاتَلَ مع هذا النَبِيٍّ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وقراءة ثانية (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) فعلى هذه القراءة أنه قد قتل الكثير من أتباع النَبي أثناء القتال مع الأعداء (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا) أي أن بقية الجيش لم يتأثر بقتل هذا العدد الكبير منهم
وقراءة ثالثة (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ) ونقف بعدها، ثم نبدأ القراءة (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا)  يعنى هذا النَبي قُتِلَ، ومع ذلك لم يتأثر أصحابه وأتباعه بذلك، (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا) أي بعد قتل نبيهم لم يصيبهم الوهن والضعف والاستكانة، فلماذا أصابكم أنتم هذا الارتباك وهذا الانهزام عندما اعتقدتم أن نبيكم قد قتل ؟
وقال بعض أهل العلم أنه لم يقتل نبي في معركة.

❇        

(فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فما أضعفهم مَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سواء من القتل أو الجراح، أو حين قتل نبيهم.
(وَمَا ضَعُفُوا) 
(وَمَا اسْتَكَانُوا) أي وَمَا ذُلُّوا وخضعوا لأعدائهم
وكلمة اسْتَكَانُوا من السكون 
وكل من "وَهَنُوا" ثم "ضَعُفُوا" ثم "اسْتَكَانُوا" جاءت في مكانها الصحيح.
لأن الوهن هو ضعف وانكسار في القلب.
ثم ينضح على الجوارح ضعفًا، لذلك قال بعدها (وَمَا ضَعُفُوا)
فاذا ضعفت الجوارح تكون الاستكانة، وهي الذلة والخضوع للأعداء.
فَعيْشُكَ تحْتَ ظلّ العزّ يوْماً .... ولا تحت المذلَّة ِ ألفَ عام.

❇        

(وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) وَاللَّهُ يُحِبُّ أمثال هؤلاء الصَّابِرِينَ.
والصبر هو أهم عنصر من عناصر النصر
يقول أحد العارفين "كفى بالجزاء على الصبر أن تكون محبوبًا لله"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
واختيار تعبير (رِبِّيُّونَ) اختيار دقيق، لأن (رِبِّيُّونَ) يعنى منتسبون الى الرب، وليس الى النَبي فلو مات النَبي، فان ذلك لا يوهنهم ولا يضعفهم ولا يجعلهم يستكينون الى عدوهم، ولذلك قال أبو بكر حين مات الرَسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وارتج الصحابة الكرام "من كان يعبد محمدًا فان محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت"
ولذلك فكان ينبغي لكم معشر المؤمنين حين بلغكم مقتل الرَسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المعركة ألا يضعفكم هذا، لأنكم ربانيين منتسبون الى  الله ولستم منتسبون الى محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

❇        

(وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
(وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ) يقول ابن عباس: يعنى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ عند لِقَاء العدو، أو وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ بعد أنْ قُتِلَ نَبِيُّهُم.
(إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)
(اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) أي الصغائر منها.
(وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) أي كبائر الذنوب
لأن الإسْرَافُ هو: الإفراط ومُجَاوَزَةُ الحَدِّ.
فمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ اغْفِرْ لَنَا يا رب ذُنُوبَنَا، الصَّغَائِرَ مِنْهَا وَالْكَبَائِرَ‏.‏
فان قال قائل كيف يكونوا (رِبِّيُّونَ) ومع ذلك يرتكبون كبائر الذنوب، نقول: هم يرون صغائر الذنوب، كبائر في حق الله تعالى، كما روي عن بعض مشايخ الصوفية "حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ" 
(وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا عند لقاء العدو، وقوي قلوبنا، فلا نفر من القتال، ولا نترك أرض المعركة أبداً
(وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)كأنهم يذكرون أنفسهم بأن جهادهم في سبيل الله.

❇        

اذن هم قد بدأوا دعائهم بطلب المغفرة من الله تعالى على جميع ذنوبهم.
كأنهم حين أصابتهم هذه المصيبة، وهي قتل نبيهم، أو انكشافهم أمام عدوهم، اتهموا أنفسهم، وعلموا أن ما أصابهم كان بسبب ذنوبهم، ولذلك بدأوا دعائهم بالاستغفار من ذنوبهم، والتوبة الى الله.
وهذا ما حدث يوم أحد، فقد انكشف المسلمون بسبب مخالفتهم أمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 
.
يقول الزمخشري في تفسيره "الكشاف" أن الاستغفار مقدّمًا على طلب النصرة، ليكون دعائهم عن زكاة وطهارة فيكون أقرب إلى الاستجابة.
.
يقول الشعراوي –رحمه الله-: الذي يفطن الى معنى كلمة "ذنب" لا يقع فيه أبدًا، لأن كلمة "ذنب" مأخوذة من مادة الذَّنَبُ وهو ذيلُ الحيوان، وذيل الحيوان لا ينفك عنه، ويأتي بعده، فاللفظ يوحي بأن ما ارتكبته من ذنب سيظل ملازمًا لك، وسيكون هناك عقاب بعده. 

❇        

(وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا) 
يعنى لم يقولوا الا هذا، وكان هذا متكررًا منهم.
وهذا الدعاء هو دعاء الاستفتاح والاستنصار على الكُفَّار.
والدعاء عند اللقاء مع العدو من مواطن استجابة الدعاء، لأنه دعاء مضطر والله تعالى يقول (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) 

❇        

اذن هذه الآية تَأْنِيبٌ وَتَأْدِيبٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ للمؤمنين الذين تَرَكُوا القتال يَوْمَ أُحُدٍ، عندما بلغهم أن الرَسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد قتل، فيضرب الله تعالى لهم مثالًا مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ من قبلهم، فهؤلاءعندما قُتِلَتْ أَنْبِيَاؤُهُمْ‏، لم يضعفوا ولم يستكينوا لِعَدُوِّكُمْ، وعلموا أن ما أصابهم كان بسبب ذنوبهم، وبسبب تقصير منهم، فكان دعائهم أن يغفر الله تعالى لهم ذنوبهم ويثبت اقدامهم في قتال أعدائهم، وأن ينصرهم عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
❇        

فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
(فَآَتَاهُمُ اللَّهُ) أي فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ.
حرف الفاء الذي يفيد السرعة
(ثَوَابَ الدُّنْيَا) وهو النصر على الأعداء والظَّفَر وَالتَّمْكِينَ 
(وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ)وهي  الْجَنَّةُ وَنَعِيمُهَا
ووصف الله تعالى ثَوَابِ الْآَخِرَةِ بالحسن في مقابل ثواب الدنيا، لأن الآخرة خيرٌ وأبقى.
أوَ أن (حُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ) يعنى أحسن ثواب الآخرة وهو منزلة الشهداء
(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) 
والإحسان هو أن تزيد على ما فرضه الله عليك من جنس ما فرضة عليك.
والذي يموت شهيدًا في سبيل الله، يكون قد أعطي كل شيء لله، لأنه حين يفقد حياته فانه يفقد كل شيء، ولذلك فهو في أعلى درجة من درجات الاحسان.
والجزاء من جنس العمل، فاذا أحسنت الى الله بعملك، أحسن الله اليك برحمته.

❇        

لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"

لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو

 ❇