Untitled Document

عدد المشاهدات : 1289

الحلقة (370) من "تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم" تدبر الآيات من (97) الى (100) من سورة "المائدة" قول الله -تَعَالي- (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ...

تَدَبُر القُرْآن العَظِيم

الحلقة (370)
تدبر الآيات من (97) الى (100) من سورة "المائدة" (ص 124)

        

(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)

        

(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ)  
يعنى جَعَلَ اللَّهُ تعالى الْكَعْبَةَ بيتًا حرامًا لتقوم بذلك مصالح الناس، وجعل الله تعالى أيضًا الأشهر الحرم وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ قِيَامًا لمصالح الناس. 

        

الشرح: يقول تعالى (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)
كلمة الكعبة من الخروج والنتوء والارتفاع، ومنه كعب القدم وهي العظمة الخارجة من جانب القدم، وسميت الفتاة اذا قاربت البلوغ وخرج ثدييها كاعب ، قال تعالى (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) وقال الشاعر:  الكَاعِبِ الْحَسْنَاءِ تَرْفُلُ ... فِي الدِّمَقْسِ وَفِي الْحَرِيرِ
 قوله تعالى (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) يعنى صَيَّرَ اللَّهُ –تعالى- الْكَعْبَةَ والمكان المحيط بها مكانًا حرامًا، يعنى مكان يحرم فيه القتال، ويحرم فيه أي نوع من انواع الاعتداء، فكان الرجل يري في الحرم قاتل أبيه وقاتل أخيه، فلا يتعرض له، بل ينتظر حتى يخرج من الحرم، ويحرم فيه صيد الحيوان والطير ، ويحرم فيه قطع شجره، ولا يضرب حتى شجره بعصا أو نحوها.
يقول تعالى في سورة العنكبوت (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) 

        

يقول تعالى  (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) يعنى جَعَلَ اللَّهُ تعالى الْكَعْبَةَ بيتًا حرامًا حتى تقوم بذلك مصالح الناس.
لأن الناس في هذا المكان يأمنون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
كأن الجزيرة العربية والعالم كله كان كالغابة التى يأكل فيها القوي الضعيف، وليس هناك مكان آمن في الجزيرة كلها بل في العالم كله، الا في هذا المكان.  
ولذلك سماه تعالى بيتًا، لأنه مكان تتحقق فيه السكينة، كما تتحقق السكينة للإنسان في بيته.

        

(وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ)
يعنى وجعل الله تعالى أيضًا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ لتقوم بذلك مصالح الناس.
قال تعالى (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) يعنى الأشهر الحرم وهي أربعة: ذُو القعْدَةِ وذُو الحِجَّة ومحرم ورَجَب، وهذه الشهور حرم الله فيها القتال، فكانت العرب يقاتل بعضهم بعضًا، ويأكل القوي فيهم الضعيف، وتغير القبيلة القوية على القبيلة الأضعف منها، فينهبون خيراتها ويقتلون الرجال ويسبون النساء والأطفال، واذا سارت تجارة يتعرضون لهم بالنهب والسرقة، فاذا دخلت الأشهر الحرم لا يتعرض فيها أحد لأحد، يعنى ثلث العام يأمن فيها الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويسافرون للتجارة فلا يتعرض لها أحد، ويحصلون فيها أقواتهم قدر ما يكفيهم طول السنة، ولولا هذه الأشهر الحرم لهلكوا من الجوع والشدة، وفي هذه الأشهر الحرم كانت المساعي للصلح بين الناس بعضهم وبعض، وبين القبائل بعضها البعض.
فكان جعل هذه الأشهر أشهرًا حرمًا يحرم فيها القتال سببًا لقيام مصالح الناس ومعيشتهم.

        

(وَالْهَدْيَ) الهدي هو ما يهدي الى البيت من الأنعام، فيذبح هناك ويوزع على الفقراء، وكان  العرب اذا ساق أحدهم الهدي ليذبح عند الحرم، فانه يشعر هديه، يعنى يشق جلد سنام ابله حتى يسيل دمها على السنام، فيعرف أن هذا هدي فلا يتعرض اليه أحد، حتى لو كان سيموت من الجوع، فانه لا يتعرض له، حتى لو جاع صاحبه، فانه لا يذبحه، وذلك تعظيمًا لبيت الله الحرام، ولو حدث أن ضل الهدي في الطريق فان من يجده يسوقه الى الحرم فيجده صاحبه هناك، فاذا لم يجده يذبح هناك ويوزع لحمه على الفقراء، فكان هذا الهدي قواماً لمعيشَة الفُقراء. 
        

يقول تعالى (وَالْقَلَائِدَ)
وكان من يقصد البيت سواء لحج أو عمرة أو زيارة فانه يقلد بعيره، يعنى يضع في عنق بعيره قلادة من ليق يعلق فيها قطعة من قماش أو نعل، فيعلم أنه ذاهب الى الكعبة فلا يتعرض له أحد
 فاذا عاد الى بيته، قلد بعيره قطعة من لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ ، فاذا لم يكن معه بعير قلد نفسه، فيعرف أنه كان في البيت فلا يتعرض له أحد كذلك.

        

فقوله تعالى (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ)  
يعنى صير الله تعالى الْكَعْبَةَ بيتًا حرامًا، يأمن فيه الناس على أنفسهم، وحرم الله القتال والأعتداء في الأشهر الحرم، حتى يأمن الناس ثلث العام على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، والقي تعالى في قلوب العرب تعظيم الْهَدْيَ حتى يكون طعامًا للفقراء، وألقي تعالى احترام  الْقَلَائِدَ فلا يتعرض أحد لمن قصد البيت الحرام أو لمن غادر البيت الحرام الى بيته
فهذه الأمور الأربعة كان فيها قيام مصالح الناس، وتحقق الأمن والرخاء في ديارهم.

        

يقول تعالى (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
يعنى هذا دليل على أَنَّ اللَّهَ تعالى يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
لأن العرب لم يكن لهم ملك ولا رئيس يحكمهم، فلو ترك العرب يقاتل بعضهم بعضا، ويأكل القوي فيهم الضعيف، لأفضي بهم ذلك الى الفناء وانقطاع النسل، فصير الله تعالى هذه الأمور الأربعة حتى يكون هناك أمانًا في بعض الأمكنة وبعض الأزمنة، فتستقيم حياة الناس.
فكانت هذه الأمور الأربعة دليلًا على علم الله تعالى الأزلى.

        

(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
وافتتاح الجملة بــ (اعْلَمُوا) للاهتمام بمضمونها 
الله تعالى له صفات جلال وله صفات جمال.
وهذه الآية فيها صفة من صفات جلال الله وهي أنه تعالى (شَدِيدُ الْعِقَابِ) وذكر تعالى صفتين من صفات الجمال، وهي (أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
فذكر تعالى صفة من صفات الجلال في مقابل صفتين من صفات الجمال، ليعلم أن جانب الرحمة أغلب، على جَانِب العذابِ، كما قال تعالى في الحديث القدسي
(إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي)

        

فهذه الآية فيها وعيد ووعد، وهذه الآية ترسي قاعدة هامة جدًا، وهي قاعدة التوازن عند المؤمن بين الخوف والرجاء، فالخوف والرجاء متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فخوف بلا رجاء يأس وقنوط، ورجاء بلا خوف أمن وغرور، والسلامة أن يستوي الخوف والرجاء، حتى يصبحا للمؤمن كالجناحين للطائر يطير بهما حتى يحط في جنات النعيم.
قال بعض السلف "لوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لَاعْتَدَلَ"
وان كان كثير من السلف استحبوا أن يغلب جانب الخوف على جانب الرجاء، وعند دنو الأجل استحبوا أن يغلب جناح الرجاء على جناح الخوف.


        

(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ)
يعنى: ليس عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا تبليغ رسالة الله، يعنى لا عذر لكم بعد ذلك 
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) وهذا فيه وعد ووعيد، لأنه تعالى يعلم الظاهر والباطن، وسيحاسبكم عليه.

        

(قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
قيل في سبب نزول هذه الآية أنه لما نزلت تحريم الخمر، سأل رجل الرسول ﷺ وقال: إن الخمر كانت تجارتي، وان لى منها مالَا، فهل ينفعني ذلك المال إن عمِلت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال النبـي ﷺ: "إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدِلْ جَناحَ بعوضة، إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا"

        

يقول تعالى (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ)  
قُلْ –يا محمد- لَا يَسْتَوِي عند الله الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ، فالحلال القليل، خير من الحرام الكثير.
(الطَّيِّبُ) هو الصالح النافع.
و
(الْخَبِيثُ) هو الفاسد، ولكنه فساد باطن، يعنى يظهر أنه صالح ولكنه فاسد في باطنه، كما نقول: هذا انسان خبيث، يعنى يظهر أنه صالح وهو ليس كذلك.
فيقول تعالى
(قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) 
يعنى لا يستوي عند الله الفاسد والصالح، مهما حاول هذا الفاسد أن يخفي فساده، ومهما كان له أتباع كُثُر، ومهما كان مستعليًا.

        

(فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) يعنى فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أصحاب العقول، لأن أصحاب العقول هم الذين يستطيعون التمييز بين الفاسد الذي يخفي فساده وبين الصالح .
يقول ابن القيم
"عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين"

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) يعنى رجاء أن تفلحوا في الدنيا والآخرة.

❇        

لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"

لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو

❇