Untitled Document

عدد المشاهدات : 446

الحلقة (580) من "تَدَبُرَ القُرْآنَ العَظِيم تفسير وتدبر الآيات من (69) الى (76) من سورة "هًود" (وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ ….

الحلقة رقم (580)
(تًدَبُر القُرْآن العَظِيم)

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
تفسير وتدبر الآيات من (69) الى (76) من سورة "هًود"- ص 229
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُواْ سَلَٰماۖ قَالَ سَلَٰم فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذ ﴿٦٩﴾ فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَة قَالُواْ لَا تَخَفۡ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوط ﴿٧٠﴾ وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَة فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ ﴿٧١﴾ قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوز وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيب ﴿٧٢﴾ قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيد مَّجِيد ﴿٧٣﴾ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلرَّوۡعُ وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ ﴿٧٤﴾ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰه مُّنِيب ﴿٧٥﴾ يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَآۖ إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمۡ ءَاتِيهِمۡ عَذَابٌ غَيۡرُ مَرۡدُودٖ ﴿٧٦﴾

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

هذه الآيات من الآية (69) الى الآية (76) تتناول قصة إِبۡرَٰاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلامُ- مع الملائكة التي جاءت تبشره بابنه اسحق، ومن وراء اسحق "يعقوب" وتخبره بإهلاك قوم لوط.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى: (وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُواْ سَلَٰماۖ قَالَ سَلَٰم فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذ ﴿٦٩﴾
(وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ) يعنى جمع من الملائكة، والله أعلم بعدد هؤلاء الملائكة، فقال ابن عباس وعطاء أنهم كانوا ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، وعن الضحاك أنهم كانوا تسعة، وعن السُّدِّي أنهم كانوا أحد عشر ملكاً، وقيل غير ذلك.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ) 
والبشري هي الخبر السار، وسميت بذلك لأن الذي يستقبل الخبر السار، تظهر آثاره على بشرة وجهه.
والمعنى أرسلنا الملائكة الى إِبۡرَٰاهِيمَ لتبشره بأنه سيولد له ابن من زوجته "سارة" وهو "اسحق" -عَلَيْهِ السَّلامُ-
والملائكة جاءت الى إِبۡرَٰاهِيمَ في صورة بشرية، لأن الملائكة لها القدرة على أن تتشكل في أي صورة.
وقد جاء جبريل الى مريم -عليها السلام- في صورة بشرية، قال تعالى
(فتمثل لها بشرا سويا) 
وكان جبريل يأتي الى الرسول ﷺ أحيانًا في صورة بشرية.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (قَالُواْ سَلَٰماۖ قَالَ سَلَٰم) يعنى سلموا على إِبۡرَٰاهِيمَ فرد عليهم إِبۡرَٰاهِيمَ السلام.
ولكن نلحظ أن السلام جاء على ألسنتهم بالنصب،
(قَالُواْ سَلَٰما) 
ورد إِبۡرَٰاهِيمَ عليهم جاء بالرفع (قَالَ سَلَٰم) 
قال أهل اللغة والتفسير: أن الرفع أبلغ من النصب، لأن الرفع يدل على الثبات والدوام، يعنى أن إِبۡرَٰاهِيمَ رد عليهم بتحية أحسن من تحيتهم، قال تعالى (وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ)
وهذه هي عبقرية الإيجاز وثراء المعاني في القرآن العظيم.
كان يمكن أن يقول إنهم دخلوا على إِبۡرَٰاهِيمَ وقالوا له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليهم إِبۡرَٰاهِيمَ: وعليكم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلا بكم، مرحبا، نورتوا الدنيا.
ولكن القرآن لم يأت بكل هذا، وانما اكتفي بكلمة واحدة جاءت مرة النصب ثم جاءت بالرفع.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذ) 
(مَا لَبِثَ) يعنى مَا أبطأ، والفاء تدل على السرعة.
وهذه اشارة الى حسن أخلاق إِبۡرَٰاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلامُ- وكرمه.
لأن من آداب الضيافة الإسراع في تقديم الضيافة للضيف.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم انظر ماذا قدم لهم إِبۡرَٰاهِيمَ.
قال تعالي
(فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذ) 
العجل هو البقر الصغير الذي لا يزيد عمره عن شهرين.
(وهذا من كرم إِبۡرَٰاهِيمَ لأن هذا هو أفضل أنواع اللحوم، وهو ما نطلق عليه في مصر لحم البتلو)
وربما يدل هذا على أن أنهم لم يكونوا ثلاثة فقط والا لما ذبح عجل كامل.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والعِجۡلٍ الحَنِيذ: (الحَنِيذ) هو النضيج المشوي بالحجارة المحمية، وهذه طريقة أهل البادية في الشواء، أن يأتوا بحجارة رقيقة أو صغيرة، وتغسل جيدًا، ثم يحمونها على النار، ويشوون اللحم عليها، وهذه الطريقة تكون أكثر نظافة وألذ طعمًا من المشوي باللهب أو الفحم.
و
(الحَنِيذ) أيضًا هو الذي يقطر بالدسم والدهن.
في موضع آخر ذكر تعالى أنه جاء بعجل سمين، قال تعالى في سورة الذاريات
(فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين) 
وكل هذا يدل على كرم إِبۡرَٰاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلامُ-، لأنه قدم لهم أفضل ما عنده.
قدم لهم عجل، يعنى بقرة صغيرة، وهو أفضل أنواح اللحوم، والعجل سمين، وشواه لضيوفه بأحسن طريقة.


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَة قَالُواْ لَا تَخَفۡ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوط ﴿٧٠﴾
(فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ) بعد أن وضع إِبۡرَٰاهِيمَ أمامهم الطعام وقربه إليهم، وجد أَيۡدِيَهُمۡ لا تمتد الى الطعام، لأنهم ملائكة، والملائكة لا تأكل ولا تشرب.
وقيل إن إِبۡرَٰاهِيمَ عندما وضع أمامهم الطعام، قالوا له: 
-    يا إِبۡرَٰاهِيمَ، إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن.
قال لهم إِبۡرَٰاهِيمَ: 
-    فإن لهذا ثمنًا! 
قالوا: 
-    وما ثمنه؟ 
قال: 
-    تذكرون اسم الله على أوّله، وتحمدونه على آخره.
فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال:
حُقَّ لهذا أن يتخذه ربه خليلا!

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يقول تعالى (فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ نَكِرَهُمۡ)
(نَكِرَهُمۡ) استنكر منهم هذا التصرف، واستوحش منهم.
(وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَة) يعنى أحس وشعر في نفسه بالخوف منهم.
في سورة الحجر أن إِبۡرَٰاهِيمَ صارحهم بخوفه منهم وقال (انا منكم وجلون)
اذن السور يكمل بعضها بعضا، شعر إبراهيم بالخوف منهم، وأضمر هذا في نفسه، ثم صارحهم بهذا الخوف.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لماذا خاف منهم إِبۡرَٰاهِيمَ عندما وجدهم لا يأكلون؟ 
قيل لأن من طبائع العرب إذا أكل الضيف من طعام صاحب البيت فانه لا يمكن أن يؤذيه، أما إذا كان يريد به مكروه فانه لا يأكل من طعامه، وهذا موجود الى الآن.
وكان كان نازلًا في مكان منعزل، بعيدًا عن الناس، فخشي إبراهيم ان يؤذونه هو وزوجته سارة.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أو أن إِبۡرَٰاهِيمَ أحسن -بفراسة المؤمن، عندما وجدهم لا يأكلون- أحسن وشعر أنهم ملائكة، فخشي أن يكونوا ملائكة نزلوا بالعذاب على قومه.
والأنبياء هم اشد الناس حرصًا وشفقة على اقوامهم.
كان الرسول ﷺ إذا عصفت الريح يتغيّر لونه ويخرج ويدخل، خوفًا من نزول العذاب.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وأخذوا منها أن من آداب المضيف أن ينظر الى ضيفه هل يأكل أم لا؟ ولكن دون أن يحد فيه النظر وهو يأكل.
روي أن أعرابيًا أكل مع "سليمان بن عبد الملك" الخليفة الأموي السابع، فرأى سليمان في لقمة الأعرابي شعرة فقال له: 
أزل الشعرة عن لقمتك. 
فقال له الأعرابي: أتنظر إلىَّ نظر من يرى الشعر في لقمتي، والله لا أكلت معك.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالُواْ لَا تَخَفۡ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوط)
يعنى قَالُت له الملائكة: لَا تَخَفۡ نحن ملائكة ارسلنا لإهلاك ٰقَوۡمِ لُوط.
وهذا من عظيم مكانة إِبۡرَٰاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلامُ- عند الله تعالى.
فقبل وقوع حدث كبير في الأرض، مثل حدث اهلاك قري لوط، يخبر الله تعالى إِبۡرَٰاهِيمَ بهذا الحدث قبل وقوعه.
ولذلك عندما جاءت هذه القصة في سفر التكوين جاء فيها
(وقال الله‏:‏ أأكتم عبدي إبراهيم شيئاً مما أصنع‏؟‏) وهذا سؤال استنكاري.
وخصوصًا أن إِبۡرَٰاهِيمَ كان يؤدي دور المساعد للوط في دعوة قري سدوم، يعنى كان إِبۡرَٰاهِيمَ يذهب ويسافر الى لوط أحيانًا، ليشد عضده، ويعمل معه في دعوة هؤلاء القوم الخبثاء.


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَة فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ ﴿٧١﴾
(وَٱمۡرَأَتُهُ) وهي سارة وهي ابنة عم إِبۡرَٰاهِيمَ
(وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَة) قَآئِمَة يعنى واقفة.
قيل واقفة تخدمهم، وقيل واقفة وراء الستار.
وأميل الى أنها كانت واقفة وراء الستار، تساعد إِبۡرَٰاهِيمَ في خدمتهم وهي وراء الستار.
لأنه ليس من المروءة أن يجعل الرجل زوجته أن تقف لتخدم ناس أغراب لا يعرفهم يدخلون بيته لأول مرة.
ولذلك أميل الى انها واقفة خلف الستار، تساعد إِبۡرَٰاهِيمَ في خدمتهم، تناول زوجها الطعام أو غير ذلك، وكانت وهي واقفة خلف الستار تسمع -ولا شك- ما يدور بين إِبۡرَٰاهِيمَ وبين هؤلاء الضيوف.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَة فَضَحِكَتۡ) 
لماذا ضحكت السيدة سارة عندما علمت أن هؤلاء الأضياف ملائكة أرسلوا لإهلاك قوم لوط.؟
قال البعض أنها ضحكت سرورا بالأمن بعد الخوف منهم، لأنها هي -أيضًا- كانت خائفة من هؤلاء الضيوف.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل ضحكت فرحًا بنزول العذاب على قوم لوطـ لأنهم كَانُوا (قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ) كما أخبر القرآن العظيم.
وهذا من باب البغض في الله، يعنى بغض الكفار وأصحاب المعاصي، بسبب كفرهم وفسقهم، وهذا من تمام الإيمان.
وذكرنا قصة العابد الذي كان في قرية كل أهلها يعملون بالمعاصي، فلما أمر الله بإهلاك القرية، قال الملك: يا رب ان فيها عبدك فلان لم يعصك طرفة عين، قال تعالى: اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط.
وهذه نأخذ منها أنه يجوز، بل يجب الفرحة بهلاك الكفار وأهل المعاصي.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقال البعض أن قوله تعالى (فَضَحِكَتۡ) يعنى فحاضت، وكان هذا من لغة بعض أهل الحجاز، أنهم كانوا يقولون "ضحكت المرأة" يعنى حاضت.
فقالوا إن قوله تعالى (فَضَحِكَتۡ) يعنى فحاضت، لأنها كانت بنت تسعين فكان قد انقطع حيضها، فنزل عليها الحيض تأكيدًا للبشارة بالولد، لأن التي لا تحيض لا تحمل.
ولكن جمهور المفسرين قالوا إن الضحك هنا هو الضحك المعروف.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وجاء في بعض الكتب عن سبب ضحك السيدة سارة أن الملائكة عندما أخبروا إِبۡرَٰاهِيمَ أنهم من الملائكة ليسوا من البشر، طلب منهم إِبۡرَٰاهِيمَ علامة تدل على أنهم ملائكة، فمسح جبريل -عليه السلام- العجل المشوي بجناحه، فعادت الى العجل الحياة، فقام يركض وذهب الى أمه، فضحكت سارة عندما رأت ذلك.


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ)
يعنى بعد أن ضحكت سارة، خرجت من وراء الستار، لأنها علمت أنهم ملائكة، فبشرتها الملائكة بأنه سيولد لها ولد اسمه (إِسۡحَٰقَ)
يقول تعالى
(وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ)
الوراء في كلام العرب هو ولد الولد.
يعنى وبشرناها أيضًا بولد من اسحق اسمه يعقوب.
وهي بشارة أيضًا لإبراهيم ولسارة بطول العمر.
لأنها بشارة بأن تعيش حتى تري ابن ابنها.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وهذه الآية استدل بها ابن كثير بان الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق.
لأن البعض يقول إن "الذبيح" يعنى الذي أُمِرَ "إِبۡرَٰاهِيمَ" بذبحه هو "اسحق" وليس "إسماعيل" -عليهما السلام- وهذا امر يروج له اليهود والنصارى، لأنهم لا يريدون أن ينسب هذا الفضل لإسماعيل -عَلَيْهِ السَّلامُ- لأن إسماعيل هو جد النبي ﷺ
وللأسف البعض يروج لهذا الرأي من المسلمين، والى الآن، نجد مثلًا صالح المغامسي إمام وخطيب مسجد قباء بالمدينة، يقول ليس هناك نص قطعي في القرآن الكريم يؤكد من هو "الذبيح" إسحاق أم إسماعيل -عليهما السلام-.
نقول نعم ليس هناك نص قطعي في القرآن العظيم، ولكن هناك أدلة كثيرة، على أن الذبيح هو "إسماعيل" وليس "اسحق" منها هذه الآية الكريمة، كما يقول الإمام ابن كثير لأن الله -تعالى- بشر إِبۡرَٰاهِيمَ باسحق، وبأنه سيولد لإسحق يعقوب، فلا يمكن أن يؤمر إِبۡرَٰاهِيمَ -بعد ذلك- بذبح اسحق، قبل أن ينجب يعقوب 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوز وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيب ﴿٧٢﴾
(قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ) كلمة تقولها العرب عند التعجب.
ونساء مصر يقلن: " يا دهوتي " 

(ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوز وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًا) 
(ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوز) يعنى كيف ألد وَأَنَا۠ عَجُوز، وانقطع الطمث عني منذ سنوات طويلة، وبالتالي ليس عندها استعداد للحمل، وهي أصلًا كانت عقيم لا تلد كما في سورة الذاريات.
(وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًا) يعنى وَهَٰذَا زوجي شَيۡخًا كبيرًا، لأن خصوبة الرجل تقل مع تقدم العمر.
على الرغم من ان الرجال يمكن أن يبقوا قادرين على الإنجاب فترة أطول من النساء، ولكن مع تقدم الرجل في العمر تقل فرصته في الإنجاب.
أو أن
(وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًا) أن زوجها قد ترك غشيانها بسبب تقدم العمر، فكيف تلد وقد ترك غشيانها؟

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولذلك في قصة زكريا -عَلَيْهِ السَّلامُ- (رب أني يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) يعنى أنا لا أستطيع أن أغشي زوجتى، وحتى لو حدث فامرأتي عاقر. (قال كذلِكَ الله يفعل ما يشاء) يعنى ستكون لك قدرة على غشيان زوجتك، وستكون زوجتك صالحة للحمل والإنجاب، ولذلك قال بعدها (رب اجعل لي آية) يعنى علامة على أني أستطيع أن أغشي زوجتي (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام الا رمزا) هذه الأيام الثلاثة وهي فترة تبويض المرأة، ستكون لك القدرة على عشيان زوجتك، وستكون زوجتك صالحة فيها للحمل.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوز وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًا)
واختلف في عمر "إِبۡرَٰاهِيمَ" وسارة في ذلك الوقت، 
في سفر التكوين أن سارة كانت ابنة تسعين، و"إِبۡرَٰاهِيمَ" كان عمره مئة سنة.
وقيل إن سارة كانت تسعون سنة، و"إِبۡرَٰاهِيمَ" مئة وعشرين، وقيل الإثنين مائة سنة، غير ذلك.
المهم ان سارة كانت (عَجُوز) انقطع حيضها منذ سنوات طويلة، و"إِبۡرَٰاهِيمَ" شيخ.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
قلنا إن (وَهَٰذَا بَعۡلِي) يعنى وَهَٰذَا زوجي.
وأصل البعل هو الذي يقوم بأمر المبعول ولا يحوجه لأحد.
فسمي الزوج بعلًا، لأن الزوج يجب عليه أن يقوم بأمر زوجته دون ان يحوجها الى أحد.
ولذلك كان هناك إله مشهور اسمه "بعل" (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين)
ولذلك سُمِّي النخل بالبعل، لأنه لا يطلب من زارعة أن يسقيه، وإنما يكتفي بماء المطر، وبما يمتصه من الأرض.
وهناك نوع من الزراعة اسمه "زراعة بعلية" وهناك "زراعة مروية" يعنى تروي بماء الأنهار او المياه الجوفية.
أما الزراعة البعلية فهي تكتفي بماء المطر فقط، فهناك "فول بعلى" و"بصل بعلى" و"زيتون بعلى" و"بطيخ بعلى" وهكذا.. فكل هذه لا تحتاج الى من يرويها، وانما تكتفي بماء المطر.
في بعض الأفلام أو المسرحيات يسخرون من هذا اللفظ
وهذا لا يجوز بحال لأنه تعبير قرآني قال تعالى في موضع آخر، في سورة البقرة (وبعولتهن أحق بردّهن في ذلك)
وهذا من الجهل لأن كما رأينا أن تسمية الزوج بالبعل تعبير دقيق.
لأنه يشير الى أن الزوج يجب عليه أن يقوم بأمر زوجته دون ان يحوجها الى أحد.
لأن الزوج الذي يحوج زوجته الى غيره يفتح بابًا خطيرُا جدًا من أبواب الشر.

(إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيب) إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيب أن يولد ولد لشيخين كبيرين.


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(قالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيد مَّجِيد ﴿٧٣﴾
(قالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ) استفهام استنكاري، يعنى لا ينبغي أن تعجبي من شيء أمر الله تعالى، لأن الله -تعالى- لا يعجزه شيء.
(رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ) دعاء من الملائكة لهم يعنى: رحمة الله الخاصة وبركاته الكثيرة الواسعة عليكم أَهۡلَ بَيۡتِ إِبۡرَٰاهِيمَ
وهذا دعاء استجاب الله لهم فيه.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أو هو إِخبار عن ثبوت ذلك لهم‏.
فلا يجب أن تتعجبي لأنك في بيت نبوة، وبيت معجزات وكرامات.
ومن البركات على هذا البيت أن جميع الأنبياء والرسل غير النبي ﷺ جاءوا من نسل ابراهيم وسارة، وجميع الأنبياء جاءوا من ابراهيم -عَلَيْهِ السَّلامُ-

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّهُۥ حَمِيد مَّجِيد) 
الحَمِيد، هو المحمود، الذي تُحْمد أفعاله.
والمَّجِيد هو العظيم الجليل الكريم.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ومن هذه الآية أخذت الصلاة التي في التشهيد الأخير في الصلاة (وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)
وهذه الآية تدل على أن أزواج الأنبياء من أهل البيت، فعائشة وحفصة -رضى الله عنهما- واللتان يسبهما الشيعة من أهل البيت. 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلرَّوۡعُ وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ ﴿٧٤﴾
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلرَّوۡعُ) يعنى ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰاهِيمَ الخوف 
(وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ) يعنى وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ باسحاق ويعقوب.
(يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ) يجادل الملائكة في قوم لوط.
يعنى يطلب من الملائكة أن يمهلوهم ولا يعذبوهم 
وقال تعالى (يُجَٰدِلُنَا) يعنى يجادل الله، لأن الملائكة تنفذ أمر الله تعالى.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل إن جدال ابراهيم لهم أنه قال لهم: 
أفتهلكون قرية فيها مئة مؤمن؟ قالوا: لا.
قال: فخمسون؟ قالوا: لا.
قال: فأربعون؟ قالوا: لا.
فما زال ينقص، فيقولون: لا، حتى قال: فواحد؟ قالوا: لا، فقال لهم (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا) فقَالُوا (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا) ثم قالوا له: (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) 
ولم يكن قد آمن بلوط إلا ابنتاه فقط، وهما "رقية" وهي الكبرى و"عروبة" وهي الصغرى.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰه مُّنِيب ﴿٧٥﴾
هذا مدح من الله تعالى لإبراهيم -عَلَيْهِ السَّلامُ- وتعليل لماذا يجادل إِبۡرَٰاهِيمَ في قوم لوط.
فذكر -تعالى- ثلاث صفات لإبراهيم: (حلِيمٌ أَوَّٰه مُّنِيب)

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
الحَلِيمٌ هو بطيء الغضب، ولا يتعجل بالانتقام، وانما يتأنى ويصبر، ولذلك أراد إبراهيم أن يمهل الله تعالى قري لوط وأن يؤخر عذابهم.
وقد ورث إسماعيل هذه الصفة عن أبيه، قال تعالى (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰه) 
الأواه يعنى كثير التأوه والتذلل والتخشع بين يدي الله تعالى.
قال رجل: يا رسول الله ما الآواه؟ قال ﷺ: "الخاشع المتضرع الكثير الدعاء "
يقول كَعْبٍ: كان إِبْرَاهِيمَ إِذَا ذَكَرَت النَّارَ قَالَ: أَوَّهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوَّهْ.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(مُّنِيب)
أناب يعنى رجع. (مُّنِيب) رجاع.
فمُّنِيب، يعنى كثير الرجوع الى الله.
فتحمل معنى كثير الرجوع الى الله بالتوبة والاستغفار.
وأيضًا يرجع الى الله تعالى في كل أموره، ويراقب الله في كل أموره،
ولا يمضي شيئًا الا إذا كان يرضى الله تعالى.
وهذا هو علامة الإيمان والورع.
المسلم يجب قبل أن تصرف أن يعرض هذا التصرف على الشرع، هل هذا التصرف يوافق الشرع ام لا؟ هل هذا العمل في هذه الشركة يوافق الشرع؟ هل هذا السفر يوافق الشرع؟ هل الهجرة الى هذه البلد يوافق الشرع؟ هل هذه العلاقة توافق الشرع؟ هل هذه الصداقة توافق الشرع أم لا؟هل هذه الزيجة توافق الشرع؟ هل البوست ده لو شيرته يوافق الشرع ام لا؟ المشوار اللى رايحه ده يوافق الشرع أم لا؟ وهكذا.
هذا هو معنى (مُّنِيب) يرجع الى الله في كل أموره.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰه مُّنِيب)
ذكر ثلاث صفات لإبراهيم وهي صفات تدل على رقة القلب والرأفة والرحمة، فبين لماذا يجادل إبراهيم عن قوم لوط، ويطلب أن يمهل قوم لوط لعلهم يتوبون الى الله تعالى.


❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

(يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَآۖ إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمۡ ءَاتِيهِمۡ عَذَابٌ غَيۡرُ مَرۡدُود ﴿٧٦﴾
(يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَآ) 
يعنى أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَا الجدال، اترك هذا الجدال في أمر قوم لوط، الموضوع مفروغ منه ومنتهي.
(إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَ)
إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَ باهلاكهم وعذابهم.

 (وَإِنَّهُمۡ ءَاتِيهِمۡ عَذَابٌ غَيۡرُ مَرۡدُود)
إِنَّهُمۡ نازل بهم عَذَابٌ لا يرده شيء لا جدال ولا دعاء ولا غير ذلك.
ولذلك قرأت (وَإِنَّهُمۡ أتاهُمۡ) بصيغة الماضي (عَذَابٌ غَيۡرُ مَرۡدُود) 

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لماذا طلبت الملائكة من إِبۡرَٰاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلامُ- أن يعرض عن الجدال في أمر قوم لوط؟ 
لأن الملائكة جبلت على الطاعة، وهذا الجدال يؤخرها عن تنفيذ أمر الله -تعالى- بإهلاك قوم لوط.
ولأن الجدال سيشغلها عن تسبيح الله تعالى.
فكأنها تقول لإبراهيم توقف عن هذا الجدال يا خليل الله، لأن جدالك سيؤخرنا عن امضاء أمر الله تعالى، وسيشغلنا عن تسبيح الله تعالى، وهو في النهاية أمر لا فائدة منه، لأن قضاء الله وحكمه قد نفذ فيهم.

❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
هذه هي قصة إِبۡرَٰاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلامُ- مع الملائكة التي جاءت تبشره باسحق، ومن وراء اسحق يعقوب، وتخبره بأمر الله تعالى بإهلاك قري لوط.
بعد ذلك تتحدث الآيات عن ذهاب الملائكة الى لوط -عَلَيْهِ السَّلامُ- واهلاك قري لوط.

        

لِمُطَالَعَة بَقِيَةِ حَلَقَات "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم"

لِمُشَاهَدَة حَلَقَاتِ "تَدَبُر القُرْآن العَظِيم" فيديو

❇