Untitled Document

عدد المشاهدات : 3287

الفصل التاسع عشر: عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتجارة وزواجه من السيدة خديجة

أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة

الجزء الثاني: من ولادة الرسول حتى مبعثه –صلى الله عليه وسلم 

الفصل التاسع عشر

 

عمل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالتجارة،

وزواجه من السيدة خديجة

 

*********************************

عمل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما قلنا في رعي الأغنام في سن مبكرة، منذ كان عمره ثمانية أعوام، وظل يعمل في رعي الأغنام حتى بلغ عمره خمسة عشر عامًا، أي سبعة أعوام كاملة، ثم بدأ يعمل بالتجارة، مثل أغلب أهل مكة

وكان عمل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التجارة خطوة هامة جدًا في تكوين شخصيته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث اكتسب من عمله بالتجارة المرونة في التعامل مع الأصناف المختلفة من البشر، وهو أمر يحتاجه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه سيتعامل بعد ذلك مع عدد غير محدود من الناس

 

وشارك الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عمله بالتجارة رجل يدعي "السائب بن ابي السائب" وكان "السائب" يقول عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "نعم الشريك لا يداري ولا يماري" يعنى –كما نقول الآن- دوغري وكلمته واحدة

وعُرِّفَ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بصدقه –لا يكذب أبدًا- واشتهر بأمانته –لا يغش أبدًا- حتى أطلقت عليه قريش "الصادق الأمين"

 

عمل الرسول في التجارة، وعرف في مكة بالصدق والأمانة

*********************************

وكان في مكة سيدة اسمها "خديجة بنت خويلد" وكانت أرملة، تزوجت مرتين من سيدين من سادات قريش ثم ماتا عنها

تزوجت أولًا من رجل اسمه "عتيق بن عائذ" وانجبت منه غلام اسمه "هند" ثم مات "عتيق" وتزوجت بعده "أبو هالة بن زرارة" وانجبت منه غلام اسمه "هالة" ثم مات هو أيضًا

كانت "خديجة" أكثر نساء قريش جمالًا، وأكثرهن مالًا، ولها تجارة واسعة، وكانت تستأجر الرجال لإدارة تجارتها، وتضاربهم، يعنى تجعل لهم نسبة من الربح يتفقون عليها

فكان أهم شيء في تجارة "خديجة" أن تبحث عن الرجل الأمين الصادق الذي تأتمنه على تجارتها، وسمعت "خديجة" عن صدق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعظم أمانته، وكريم أخلاقه

فأرسلت الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعرضت عليه أن يخرج بتجارتها الى اليمن، وقبل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخرج بتجارتها الى اليمن ثلاثة مرات، وكان معه في كل مرة عبد لخديجة اسمه "ميسرة"

 

خرج الرسول بتجارة للسيدة خديجة ثلاثة مرات

 

وشاهد "ميسرة" الكثير من أخلاق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما جعله يحب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حبًا شديدًا، تقول الروايات "فَكَانَ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم"

ثم خرج الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تجارة لخديجة الى الشام، ومعه "ميسرة" ومروا في طريقهم على راهب من الرهبان في صومعة اسمه "نسطور" ورأي هذا الراهب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعرفه بصفته الموجودة في التوراة، كما عرفه بحيري الراهب من قبل، وكان هذا الراهب يعرف "ميسرة" من قبل، فقال لميسرة:

-        هُوَ هُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاءِ، يَا لَيْتَ أَنِّي أُدْرِكُهُ حِينَ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ

 

قال الراهب "نسطور" لميسرة هُوَ هُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاءِ

 

ورأي مَيْسَرَةُ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يبيع في السوق، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ اخْتِلاَفٌ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: احْلِفْ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم:

-        مَا حَلَفْتُ بِهِمَا قَطُّ، وَإِنِّي لأَمُرُّ فَأُعْرِضُ عَنْهُمَا

وعاد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى مكة وقد ربحت تجارة خديجة أضعاف ما كانت تربح من قبل، فسرت السيدة خديجة بذلك، وأخبرها "ميسرة" مجددًا بما رآه من كريم أخلاق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخبرها بما سمعه من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين رفض الحلف بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، وكانت السيدة خديجة هي أيضا من القلاقل جدا في مكة الذين يرفضون عبادة الأصنام، وأخبرها بما قال "نسطور" الراهب من أنه آخر الأنبياء

 

أخبر ميسرة بما رآه مجددًا من كريم أخلاق الرسول

 

ورغبت السيدة خديجة جدًا في أن تتزوج من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن لا تعرف كيف تصل الى هذا الأمر، وكانت السيدة خديجة يتقدم لها الكثير من سادات قريش، لأنها –كما قلنا- كانت ذات جمال ومال وشرف، وكانت تلقب بالطاهرة، ولكنها كانت ترفض كل من يتقدم اليها، لأنها كانت مشغولة القلب والعقل بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  

وكانت السيدة خديجة لها صديقة اسمها " نَفِيسَةَ بِنْتِ مُنْيَةَ" وفي يوم أخذت تتحدث مع صديقتها كثيرا عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعن صدقه وأمانته وكريم لأخلاقه، فقالت لها "نفيسة"

-        يا خديجة أتحبين أن أكلمه ؟

فقالت لها السيدة خديجة: فيم ؟

قالت: في الزواج منك،

قالت: نعم

فذهبت نفيسة الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالت له:

-        يا محمد ما يمنعك أن تزوج ؟

فقال: ما بيدي ما أتزوج به ؟

قالت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب ؟

قال: فمن هي ؟

قالت: خديجة

قال: وكيف لي بذلك

قالت: علي

لم تخبره السيدة "نفيسة" أن السيدة "خديجة" هي التى أرسلتها، ولكنها أفهمت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها ستكلم السيدة خديجة في الأمر، حفظًا لكرامتها

وعادت السيدة نفيسة بعد ذلك للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخبرته بموافقة خديجة، فذهب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع عمه "أبو طالب" الى والد السيدة خديجة ويتم الزواج

ننتقل في الفصل القادم ان شاء الله تعالى الى داخل بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبيت السيدة خديجة 

ولكن قبل أن ننتقل الى هذا البيت المبارك نتوقف قليلًا أمام بعض النقاط الهامة

 

ذهب الرسول مع عمه "أبو طالب" الى والد السيدة خديجة وتم الزواج

 

*********************************

النقطة الأولى: أن السيدة خديجة هي التى طلبت الزواج من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهل يجوز أن تأتي الآن فتاة، وتعرض نفسها، وتطلب هي الزواج من الشاب

نقول أنه بالنسبة للسيدة خديجة كان هناك وضع خاص:

أولًا: كانت السيدة خديجة هي الأكثر مالًا، وكل سادات قريش يطلبون زواجها وهي ترفض، فمن الطبيعي اذا كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرغب في الزواج منها أن يستحي أن يطلب منها الزواج

ثانيًا: أنها لم تذهب اليه وتعرض عليه نفسها، بل أرسلت اليه صديقة لها "تجس نبضه" ولم ترسل لها زميلتها في المدرسة ولا الجامعة –كما يحدث الآن- بل أرسلت له سيدة ناضجة عرضت عليه الأمر بصورة تحفظ للسيدة خديجة كرامتها، فجعلت كأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الذي يطلب الزواج منها، ثم ينتظر ردها

لذلك لا ينبغي أن تأتي الآن أي فتاة وتعرض نفسها على أي شاب، وتقول أن السيدة خديجة عرضت نفسها على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأصنع مثلها

الاسلام من شدة احترامه وتقديره للمرأة، جعل الصداق –المهر- شرط من شروط الزواج، وجعل موافقة ولي الفتاة شرط من شروط الزواج  

أنا أحزن كثيرًا عندما أري فتاة في الطريق مع شاب، وفي وضع مهين لها، وأحزن كثيرًا عندما نقرأ هذه الأرقام عن نسبة الزواج العرفي في الجامعات، وأكثر شيء مهين للفتاة أن تتزوج بورقة عرفية

*********************************

 

كان هناك تكافؤ بين الرسول وبين السيدة خديجة

 

النقطة الثانية: البعض يحتج بزواج الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من السيدة خديجة بعدم ضرورة التكافؤ بين الزوجين، لأن السيدة خديجة كانت غنية، والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان فقيرًا

ونقول له هذا غير صحيح، لأنه كان هناك بالفعل تكافؤ بين الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والسيدة خديجةـ  نعم كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقيرًا، ولكنه كان من عائلة عريقة، فقد كان جده "عبد المطلب" هو سيد قريش، وكذلك كل جدوده كانوا هم سادات قريش

*********************************

نقطة ثالثة: هي فارق السن الكبير بين الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين تزوج السيدة خديجة خمسة وعشرون عامًا، بينما السيدة خديجة عمرها أربعون عامًا، ومع ذلك كان الزواج ناجحًا، نقول أن العبرة ليست بالسن، ولكن بدرجة النضوج والسن العقلي فقد كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شابًا عمره خمسة وعشرون عامًا، ولكنه كان في قمة النضوج، ولذلك لم يعد لهذا الفرق في العمر أي تأثير سلبي على نجاح الزواج