Untitled Document

عدد المشاهدات : 1523

الفصل الواحد والأربعون: "أبو طالب" النصير القوي

أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة  

الجُزْءُ الثَالِث: مِنْ نُزُول الوَحْي حَتَى الهِجْرَة - مَرْحَلَة الدَعْوَة المَكِيَة

الفصل الواحد والأربعون

*********************************

"أبو طالب" النصير القوي

*********************************

  

*********************************

قريش تريد قتل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

تحدثنا في فصل سابق عن أساليب قريش الكثيرة جدًا في محاربة الاسلام والمسلمين، ورأينا كيف قامت قريش بتعذيب ضعفاء المسلمين، حتى مات بعضهم من شدة التعذيب، وفقد البعض بصره، وشوهت أجساد البعض

وبرغم كل هذا فقد استمر انتشار الاسلام في مكة وفي خارج مكة، وتزايدت أعداد المسلمين، وأدركت قريش أنها عاجزة عن وقف انتشار دعوة الاسلام، ورأت ان السبيل الوحيد لوقف انتشار الاسلام هو قتل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ولكن كان السبب الوحيد الذي يمنع قريش من قتل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان في حماية قبيلته "بنى عبد مناف" وهي أقوي قبائل قريش، ولذلك سعت قريش الى "أبو طالب" عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو سيد "بنى هاشم" لتطلب منه وتضغط عليه حتى يرفع حمايته عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

*********************************

مفاوضة قريش الأولى مع أبو طالب

اتجه عدد كبير من سادة قريش الى "أبو طالب" : وقالوا له

        إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما تخلي بيننا وبينه

يعنى اما انك تبعده عنا، او تتركنا نحن نتصرف معه

رد عليهم أبو طالب برقة، وردهم ردًا جميلًا، فانصرفوا، واستمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في دعوته وهكذا لم تثمر هذه المفاوضة الأولى شيئًا لقريش

*********************************

الجولة الثانية من مفاوضات قريش مع أبو طالب

عاد سادة قريش الى أبو طالب، وعرضوا عليه أمرًا عجيبًا

ذهبوا اليه ومعهم "عمارة بن الوليد" وهو ابن "الوليد بن المغيرة" أحد سادة قريش وأغنى أغنيائهم، وهو أخو "خالد بن الوليد" وكان "عمارة" شابًا جميلًا قويًا غنيًا يحسن الشعر، وقالوا له

       يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد فتى قريش وأشعرهم وأجملهم فخذه فاتخذه ولدا وأسلم لنا ابن أخيك نقتله فإنما رجل برجل

  

عرضت قريش على أبو طالب أن يأخذ "عمارة بن الوليد" بدلًا من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

كانت قريش تري أن هذه الفكرة يمكن أن تكون مخرج لأبو طالب، بحيث يتخلى عن نصرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بطريقة تحفظ لأبو طالب ولبنى عبد مناف كرامتهم

ولكن "أبو طالب" رفض هذه الفكرة رفضًا قاطعًا، ورد على قريش –هذه المرة- بعنف وقال

        والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه ؟

  

والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه ؟

*********************************

الجولة الثالثة من المفاوضات: قريش تكشر عن أنيابها

عاد سادة قريش لمفاوضة أبو طالب للمرة الثالثة، والشر في عيونهم ، وقالوا له

        انا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وآلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله واياك حتى يهلك أحد الفريقين

  

انا والله لا نصير على هذا من شتم آبائنا وآلهتنا

فأرسل أبو طالب الي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأعلمه ما قالت قريش، ثم قال له

       ابق على نفسك وعلىَّ ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق

  

ابق على نفسك وعلىَّ ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق

 فرد عليه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رده الصلب الشهير

        يا عماه والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه

ثم قام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومضى وقد امتلأت عيناه بالدموع، فرق له أبو طالب رقة شديدة، ودعاه، وقال له

        اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا اسلمك لشيء أبدًا

وقال أبو طالب شعرًا في ذلك

والله لَنْ يَصِلُوا إليك بِجَمْعِهِـمْ * حتَّى أوسَّدَ في التراب دفينا

فاصْدَعْ بأمرك ما عليك غَضَاضةٌ * وابْشِرْ وقر بذاك منك عيونا

وعرضت ديناً لا محالــة أنـه * مِنْ خير أديانِ البَرِيَّةِ دينا

لَوْلاَ الملامةُ أو حِــــــذَارى سبّـــــــةً    *     لوَجَـدْتَنِي سَــــــمْحاً بذاك مَتِينا

قال "أبو طالب" هذا الشعر، ليعلن بوضوح موقفه من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويؤكد أمام قريش مساندته للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وانتشر شعر أبو طالب في قريش، وكان الشعر هو وسيلة الاعلام عند العرب

*********************************

أبو طالب" يعزز حمايته للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"

وأخذ "أبو طالب" يتحرك أكثر في اتجاه دعوة بنى هاشم، وبنى عبد مناف الى حماية الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويأخذ عليهم في ذلك العهود، فوافقه في ذلك أكثرهم، برغم أن أكثرهم لم يكن على الاسلام، و"أبو طالب" نفسه لمن يكن على الاسلام، ولكن –كما ذكرنا من قبل- كانت هذه هي طبيعة المجتمع القبلي، الذي كان من مبادئه "أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا

قرآن ينزل في أبو طالب

وقد نزل في موقف أبو طالب، وموقف "بنى هاشم" قول الله تعالى في سورة الأنعام ((وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ۖ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ))

 "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْه: يعنى يَنْهَوْنَ المشركين عن ايذاء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

 وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ: يعنى يبتعدون بأنفسهم عن الاسلام

ويعتب عليهم الله تعالى هذا الموقف المتناقض، فيقول تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ

يقول سعيد بن أبي هلال: نزلت في عمومة النبي وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشد الناس عليه في السر

ويقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "يا عم نزلت فيك آية"  قال أبو طالب : وما هي؟  فتلا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قوله تعالى ((وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ))  ثم قال له الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  : تمنع قريشا أن تؤذيني وتأبى أن تؤمن بي

  

يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يا عم نزلت فيك آية

*********************************

قريش تتجاوز الحد في ايذاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ومع ذلك فقد كانت قريش لا تتوقف عن ايذاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن كان قتل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطًا أحمر تعلم قريش أنها لا تستطيع أن تقترب منه، كذلك كان ايذاء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له حدود لا تستطيع قريش أن تتجاوزها، فلا تستطيع قريش مثلًا ان تهين الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اهانة شديدة، كما تفعل مع كثير من المسلمين، بل وكما كانت تفعل مع كثير من أشراف قريش من المسلمين، مثل "أبو بكر" و"عثمان بن عفان" و"عبد الرحمن بن عوف" وغيرهم

*********************************

وحدث مرة أن تجاوزت قريش حدودها في ايذاء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يسكت أبو طالب، ورد عليهم بقوة

وقف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلى عند الكعبة، وكان هذا أكثر شيء يغيظ قريش، فقال أبو جهل: من يقوم الى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته ؟ فقام ابن الزبعري الشاعر المعروف وأخذ فرث ودم، والفرث هو بقايا الطعام في الكرشة، عند ذبح الخروف أو الماعز، ولطخ بها وجه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يصلى، فخرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من صلاته، وقريش تضحك


خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من صلاته، وقريش تضحك

فذهب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى عمه "أبو طالب" وقال: يا عم ألا تري الى ما فعل بي ؟

فقال أبو طالب : من فعل هذا بك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عبدالله بن الزبعرى؛ فغضب أبو طالب غضبًا شديدًا، وقام وحمل سيفه، وذهب الى حيث القوم ومعه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى اذا اقترب منهم، ورأوا أبو طالب يحمل سيفه جعلوا ينهضون، وحاول بعضهم الهرب، فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل جلَّلته بسيفي فقعدوا جميعًا حتى اذا كان بينهم فقال: يا بني من الفاعل بك هذا؟ فقال : (عبدالله بن الزبعرى)؛ فأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول، ثم انصرف

  

  قال أبو طالب: والله لئن قام رجل جلَّلته

*********************************

هكذا سَخَّر الله تعالى "أبو طالب" وبنى هاشم وبنى عبد مناف لحماية النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في دعوته، واستمر الاسلام في الانتشار في قريش، بل وفي خارج قريش، لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يستغل موسم الحج، في دعوة العرب لدخول الاسلام

في المقابل لم تتوقف قريش لحظة واحدة عن محاربة الاسلام وتشويه صورة الاسلام، وتشويه صورة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما لا تتوقف عن اضطهاد المسلمين وتعذيب المستضعفين منهم

ما الذي حدث بعد ذلك ؟

هذا ما سنتناوله في الفصل القادم ان شاء الله تعالي

*********************************

  لمطالعة بقية الفصول اضغط هنا