Untitled Document

عدد المشاهدات : 4181

الحلقة (11) من (تدبر القرأن العظيم) الأية الأولى من سورة "البقرة" قول الله تعالى: ألم

  تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة  الحادية عشر
    ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

  تدبر الآية رقم (1) سورة البقرة – قول الله تعالى (ألم)

   ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

  

   ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 بدأت سورة البقرة بقول الله تعالى (ألم) وهذه حروف مقطعة

والحروف المقطعة قد يوجد منها في أول السور حرف واحد مثل((ق * والقرآن المجيد)) و((ص * والقرآن ذِي الذكر)) و((ن * والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ)) 
ومرة يأتي من الحروف المقطعة اثنان مثل ((حم)) وقد وردت في سبعة سور
ومرة ثلاثة حروف مثل ((ألم)) في البقرة وآل عمران
ومرة أربعة حروف مثل ((المص)) الأعراف، و((المر)) في الرعد 
ومرة خمسة حروف مثل ((كهيعص)) في مريم
وأول ما يلفت النظر في الحروف المقطعة، أن عدد هذه الحروف التى جاءت في فواتح السور أربعة عشر حرفًا، ونحن نعرف أن الحروف العربية ثمانية وعشرون حرفاً، اذن الحروف المقطعة التى ذكرت في أوائل السور هي نصف الحروف العربية، وهذا يدل على أنها لم توضع عشوائية، وانما لها حساب دقيق 
 

    ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 ومعنى الحرف المقطع أنك تقرأ الحرف باسمه، لأن كل حرف له اسم وله مسمي، فالناس حين يتكلمون ينطقون بمسمي الحرف وليس باسمه، فحين تقول "كتاب" مثلًا فأنت تنطق بمسمي الحروف، فالمسمي هو الصوت الذي يخرج من فم الإنسان، وهذا يستطيعه أي شخص، الأمي والمتعلم

أما اذا أردت أن تنطق بأسماء الحروف، فستقول: كاف وتاء وباء، وهذا لا يستطيعه الأمي، وانما يستطيعه فقط المتعلم
ولذلك أول شيء في الحروف المقطعة، أن رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نطق الحروف بمسمياتها وهو أميًا، والأمي –كما قلنا- لا يستطيع أن ينطق الحروف بمسمياتها، فكأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين نطق الحروف بمسمياتها يقول للعرب أن هذا القرآن ليس من عنده، وانما هو وحي من عند الله تعالى، بدليل أنه نطق (ألم) بمسمياتها، وهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أميًا لايستطيع أن ينطق الحروف بمسمياتها 
 

   ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 الأمر الثاني في الحروف المقطعة، أن بعض الكلمات تبدأ بأسماء الحروف، ونفس الكلمة في آية أخري ننطق بمسمي الحرف

مثال: (ألم) في أول سورة البقرة، ننطق بأسماء الحروف: ألف لام ميم، وننطق نفس الكلمة في أول سورة الفيل أو سورة "الشَرح" بسميات الحروف فنقول ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل)) ونقول ((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ))
فلماذا نطقنا بمسمي الحروف في ((ألم)) بينما نطقنا بالأسماء في سورة الفيل وسورة الشرح
والسبب أن الرَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمعها كذلك من جبريل –عليه السلام- نقلًا عن الله –عز وجل-
وهذا يلفتنا الى أن القرآن العظيم ليس كأي كتاب تقرأه، فالأصل في القرآن السماع، فلا يصح أن تقرأ القرآن قبل أن تسمعه من قاريء 
ووعد الله تعالى بحفظ القرآن العظيم، بقوله تعالى ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) ليس وعدًا بحفظه في المصاحف فقط، ولكن وعدًا بحفظه في عقول المسلمين أيضًا، وهذا هو الأصل في حفظ القرآن العظيم 

بعض الكلمات تبدأ بأسماء الحروف، ونفس الكلمة في آية أخري ننطق بمسمي الحرف
 

   ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 نزل القرآن العظيم عربيًا فصيحًا معجزًا في فصاحته، فكانت معجزة القرآن من جنس ما نبغ فيه العرب، لأن العرب هم أهل فصاحة وبلاغة وشعر ونثر

ودائمًا تأتي معجزة الرسول من جنس ما نبغ فيه قومه، فجاءت معجزة موسى أمور كالسحر، وأمور تبطل السحر، لأن المصريين كانوا نابغين في السحر في زمن موسى، وجاءت معجزة "عيسى" أنه يبريء الأكمه –الذي ولد كفيفًا- والأبرص وهو مرض جلدي لم يكن له علاج في ذلك الوقت، لأن الروم كانوا نابغين في الطب
لأن الرسول اذا جاء بمعجزة في أي مجال ربما قال قائل، لو تعلمنا هذا الأمر لجئنا بمثله، ولكن اذا جاء بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه، وهم يعلمون أن النبوغ بين البشر محصور فيهم، فلابد أن ما جاء به ليس من عند نفسه، وانما هو من عند الله تعالى
وهكذا كانت معجزة القرآن العظيم في فصاحته لأن العرب هم أهل فصاحة وبلاغة وشعر ونثر
وكلما ابتعد العرب عن لغتهم العربية، وضعفت ملكتهم في هذا الأمر، كلما ظهرت مجالات أخري للإعجاز في القرآن كالإعجاز العلمي والعددي والتاريخي وغير ذلك
فحين تبدأ أحد السور مثل سورة البقرة بهذه الآية ((ألم)) كأن الله تعالى يقول أن كلام الله تعالى المعجز مكون من حروف مثل الحروف التى تتكلمون بها في لغتكم، ومع ذلك تعجزون أن تأتوا بسورة واحدة من سوره
وقد ضُرِبَ مثل لهذا الأمر: اذا أردت أن تختبر جماعة في إجادة النسج، فأعطيت أحدهم خيوط صوف، والثاني خيوط حرير، والثالث قطن، والرابع كتان، وأنتج كل واحد منهم قطعة قماش، فانك لن تستطيع أن تحكم على دقة نسج كل منهم، لأن المادة الخام مختلفة 
فاذا أردت أن تحكم على مهارة كل واحد فعليك أن توحد المادة الخام، فتعطي لهم جميعًا خيوط حرير أو قطن أو كنان أو صوف
فكأن الله تعالى يقول أن المادة الخام التى يتكون منها القرآن وغيره من الكلام مادة واحدة، وهي الحروف العربية، ومع ذلك عجز العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولو أن القرآن جاء بغير حروف العرب، وبغير كلمات العرب؛ لقالوا: لو كانت عندنا هذه الحروف وهذه الكلمات؛ لأتينا بأحسن منها.
وتحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله ولو اجتمع كل العرب فقال تعالى ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا))
ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور من القرآن فقال تعالى (( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )) 
ثم تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من القرآن ((فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) وهذا التدرج في التحدي، أمعانًا في التحدي
لذلك كانت الآية التالية بعد الحروف المقطعة، تأتي غالبًا اشارة الى كتاب الله تعالى
سورة البقرة ((الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه))
سورة لقمان ((الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ))
سورة السجدة ((ألم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ))
سورة الأعراف (المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ())
سورة يونس ((ألر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ))
سورة هود ((الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير))
 

   ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 أما أفضل ما قيل في الحروف المقطعة، هي قول أن الحروف المقطعة: هي مما استأثر الله بعلمه، فنحن نؤمن بظاهرها، ونكل العلم فيها إلى الله تعالى، وقد ورد ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلى وغيرهم من الصحابة والتابعين

وقد جمع بعض السلف الحروف المقطعة، في جملة 
((نص حكيم قاطع له سر)) 
ما معنى هذا ؟ الحق –سبحانه وتعالى- أنزل القرآن العظيم، وأنزل فيه شرائع، وهذه الشرائع كلها في مصلحة الإنسان، فالحق سبحانه وتعالى حرم السرقة، فغل يدك عن ممتلكات الناس، ولكنه في نفس الوقت حمى ممتلكاتك أنت من كل الناس، وحرم القتل، فمنعك من قتل أحد، وحماك في نفس الوقت من أن يقتلك أي أحد، وحرم الغيبة فمنعك أن تذكر أخاك بما يكره في غيبته، ولكنه في نفس الوقت حماك أنت أن يذكرك كل الناس في غيبتك بما تكره، وحرم عليك النظر الى غير محارمك، فحمى كل محارمك من أن ينظر اليهم أحد من الناس، وهكذا كل الشرائع في مصلحتك 
ولكن قد يستقبل الإنسان بعض الشرائع دون أن يدرك الحكمة منها، فهل معنى هذا ألا يأتمر المسلم بأوامر الله فيها، ولا ينتهي عن نواهيه حتى يعلم الحكمة منها ؟
فالله تعالى حرم الخمر في كتابه العظيم، ولم يكن الناس يدركون الحكمة في تحريم الخمر في ذلك الوقت، ثم علم الناس بعد مئات السنين أن الخمر له أضرار صحية ونفسة كثيرة، فهل معنى ذلك ألا يمتنع الناس عن شرب الخمر حتى يعلموا الأضرار التى يسببها الخمر
وحرم الله أكل لحم الخنزير، ولم يكن الناس يعلمون أضرار أكل لحم الخنزير في ذلك الوقت، فهل يجب أن ينتظر الناس مئات السنين حتى يكتشفوا أضرار لحم الخنزير 
وحرم الله الربا، ثم ذكر علماء الإقتصاد بعد مئات السنين أن الربا هو المسئول عن التضخم والغلاء في العالم كله، وأنه يجعل الفقير يزداد فقرًا والغنى يزداد غنى، فهل ننتظر حتى نقتنع بأضرار الربا، ثم بعد ذلك نقول أنه حرام
ولو انتظرت حتى تقتنع بكل أمر من أوامر الله تعالى، ولا تأتمر بأوامر الله تعالى حتى تقتنع بفائدة هذا الأمر لك، فليس هناك أي معنى لطاعة الله تعالى، فأنت تفعل هذا الأمر ليس طاعة لله تعالى، وانما تفعله لمصلحة نفسك
فأنت حين تمتنع عن شرب الخمر وعن لحم الخنزير لأنك علمت أضرارهما، فأنت تفعل هذا ليس طاعة لله تعالى، وانما تفعله حتى تحافظ على صحتك 
والله تعالى لا يريد هذا، مراد الله تعالى أن تأتمر بأوامره لأنه تعالى أمرك بهذا، وأن تنتهي عن نواهيه لأنه تعالى نهاك عنها 
فلو كان عندك ابنين، واحد يطيعك بمجرد أن تأمره بأي أمر، والآخر اذا أمرته بأي أمر يقول لك اقنعنى به أولًا فاذا اقتنع ووجد فيه مصلحته فعله، واذا لم يقتنع لم يفعله، فأي الإبنين أقرب الى قلبك، لا شك أنه الأول
وهكذا القرآن العظيم، الحق –سبحانه وتعالى- لا يريدك أن تؤمن بالقرآن وتعظمه لأنه معجز في فصحاته وفي أحكامه، ولكن يريدك أن تعظم القرآن العظيم لأنه كتاب الله تعالى، ولأنه كلام الله تعالى
ولذلك أورد هذه الحروف المقطعة، وأمرك أن تؤمن بها، وأن تعظمها، وأن تتعبد لله تعالى بتلاوتها دون أن تعلم معانيها
ولذلك قال كبار الصحابة: هي مما استأثر الله بعلمه، فنحن نؤمن بظاهرها، ونكل العلم فيها إلى الله تعالى
ووجهنا الرسول –صلى الله عليه وسلم- الى تعظيمها فيما رواه التِّرْمِذِيُّ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)) : مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ ((. 
وهذا هو قول الله تعالى في سورة آل عمران ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ((