Untitled Document

عدد المشاهدات : 2056

الحلقة (73) من "تدبر القُرْآن العَظِيم" تدبر الآيات (99) و(100) و(101) من سورة البقرة وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُه

  تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الثالثة والسبعون
تدبر الآيات (99) و(100) و(101) من سورة البقرة

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) أي أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ يا محمد 
(آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) أي علامات واضحات دالات على نبوتك
وهذه الآيات البينات الدالة على نبوة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي آيات القرآن العظيم
(وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) وما يكفر بهذا الآيات أي ينكرها الا (الْفَاسِقُونَ) 
وقد قلنا من قبل أن الفسوق –لغة- هو الخروج عن الشيء، من قول العرب فسقت الرطبة اذا خرجت عن قشرتها
فمعنى الفسق في هذه الآية، ليس فسق المعصية، ولكن الفسق الأكبر وهو فسق الخروج من الدين، أي الكفر، ولذلك قال تعالى (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والآية لها مناسبة نزول، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ صُورِيَّا لِرَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و ابْنُ صُورِيَّا هو "عبد الله ابْنُ صُورِيَّا" أكبر علماء اليهود في زمن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: 
- يَا مُحَمَّدُ مَا جِئْتَنَـا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَنَتَّبِعُكَ 
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ﴾.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ناسب قوله: (بَيِّنَاتٍ) لفظ (الكفر) ولفظ (الْفَاسِقُونَ) 
لأن البَيِّنَاتٍ جميع "بينة" وهو الشيء الواضح الذي لا لبس فيه
والكفر هو الستر والتغطية
وأنت لا تستطيع أن تواجه هذا الشيء الواضح الا بالستر والتغطية، لأنك لا تستطيع أن تواجهه بالحجة والمنطق 
ثم قال (الْفَاسِقُونَ) لأن ستر الواضح لا يقع الا من فاسق متمرد في فسقه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

يَا مُحَمَّدُ مَا جِئْتَنَـا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَنَتَّبِعُكَ 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
يقول أهل العربية أن "الواو" التي في قوله )أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا) هي "واو" عطف أدخلت عليها "ألف" الإستفهام، كأنه تعالى قال: كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، ثم أدخلت "ألف" الإستفهام على "كلما" فأصبحت (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ)
وهي ألف استفهامية ولكنها للتوبيخ
أما (كُلَّمَا) فهي أداة شرط تفيد التكرار، أي كثرة وقوع الشرط وكثرة وقوع الجواب، وكلما حصل الشرط حصل الجواب
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

أما "العهد" الذي نبذنه بنى اسرائيل، فهو الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالعمل بما في التوراة، ثم سلك الأبناء مناهج الآباء والأجداد اذ أخذ الله تعالى عليهم الإيمان بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذكر لهم صفته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كتبهم بمنتهي الدقة، حتى أنهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم، ثم نقضوا هذا العهد –كما نقض آبائهم وأجدادهم العهد- وكفروا به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل وحرفوا التوراة وغيروا نعته وصفته
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

يقول ابن عباس في مناسبة نزول هذه الآية: أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما هاجر الى المدينة وتحدث مع اليهود أخذ يذكرهم بما أخذ الله عليهم من الميثاق بالإيمان به واتباعه، فقالوا: 
- والله ما عُهِد الينا في محمد، وما أُخِذ له علينا ميثاقًا
فنزل قول الله تعالى )أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

قوله تعالى (نَبَذَهُ) أصل "النبذ" في كلام العرب هو الطرح والإلقاء والترك، ولذلك الطفل اللقيط اسمه "منبوذ" أي مطروح مرمي به، ومنه سمي النبيذ "نبيذًا" لأنه زبيب أو تمر يطرح ثم يعالج
أبو الأسود الدؤلى أرسل رسالة في حاجة الى صديق له وهو والِ على "ميسان" فانشغل عنها ولم يهتم بها، فكتب اليه
وخـبرني مـن كـنت أرسـلت أنمـا            أخــذت كتـابي معرضـا بشـمالكا 
نظــرت إلــى عنوانـــــه فنبذتـه           كنبذك نعـلا أخلقت مــن نعالكــا 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

كلمة (فَرِيقٌ) أي جماعة 
ثم قال تعالى (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)
فربما الذي يقرأ يقول أن الفريق أو الجماعة التى تنقض الميثاق جماعة صغيرة، فيقول تعالى أن هذا الفريق هو الأكثرية الغالبة، فقال تعالى (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)
يعنى هذا الفريق الذي ينقض الميثاق هو أكثرهم وليس قليل منهم
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

قلنا أن (كُلَّمَا) فهي أداة شرط تفيد التكرار، أي كثرة وقوع الشرط وكثرة وقوع الجواب، وكلما حصل الشرط حصل الجواب
ولذلك تاريخيًا، عندما هاجر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  من مكة الى المدينة، كانت هناك ثلاثة قبائل يهودية، وهي "بنى قينقاع" و"بنى النضير" و"بنى قريظة" وكان أول شيء فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن وضع وثيقة المدينة، والتى نظمت العلاقة بين المسلمين بعضهم بعض، وبين المسلمين وغير المسلمين، ولكن ما لبثت أن نقضت نقضت "بنى قينقاع" بنود المعاهدة، ثم غدرت "بنى النضير" ثم غدرت "بنى قريظة" في غزوة الأحزاب، في أشد الظروف وأحلكها على المسلمين
ثم استمر اليهود في نقض العهود في كل لقطة من لقطات تاريخهم، والآن يؤدونها بطريقة أكثر مكرًا، فيقومون بابرام معاهدة، ثم بعد تغيير الحزب الحاكم، يقول الجزب الفائز أنه غير ملتزم بالمعاهدة لأن الذي أبرمهما حزب كذا
يعنى –مثلًا- حزب الليكود يبرم معاهدة مع السلطة الفلسطينية، ثم بعد الانتخابات يخسر حزب الليكود ويفوز حزب العمل، فيقول حزب العمل أن الذي أبرم المعاهدة حزب الليكود وأنا غير ملتزم بهذه المعاهدة، وهكذا 
 يقول الحسن البصري: لم يعاهدوا عهدًا الا نقضوه، يعاهدون اليوم وينقضون غدا.
اذن فالآية تكشف عن سمة من سمات اليهود، وهي نقض العهود، لأن في اعتقادهم أن نقض العهد مع غير اليهود لا شيء فيه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

 
غدرت "بنى النضير" ثم غدرت "بنى قريظة" في غزوة الأحزاب
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
يقول تعالى (وَلَمَّا جَاءَهُمْ) يعنى ولما جاء اليهود 
(رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وهو محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 
(مُصَدِّقٌ) أي موافقًا
(لِمَا مَعَهُمْ) أي التوارة 
فمعنى (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) ولما جاء اليهود رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موافقًا للتوراة، و موافقًا لصفته المذكورة في التوارة
كان على اليهود، والنصارى أن يفرحوا بهذا القرآن؛ لأنه مؤيد لما معهم؛ ولكن الأمر كان بالعكس !
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

 (نَبَذَ) أي ترك وطرح بشدة
يقول "سفيان بن عُيينة" وضعوا التوراة في الحرير والديباج، وحلَّوه بالذهب والفضة، ولكنهم لم يعملوا به، فذلك النبذ .
 (فَرِيقٌ) أي جماعة 
(مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أي اعطوا الكتاب، وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها.
وسمي كتابًا لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ
(كِتَابَ اللَّهِ) وهو التوراة، وهو –أيضًا- القرآن العظيم
(وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) أي رموه وطرحوه بشدة وراء ظهورهم
وهذا مثل يقال لكل رافض أمرًا، فيقال: قد جعل فلان هذا الأمر وراء ظهره، كما نقول في التعبير الدارج: ارمي ورا ظهرك 
 وهذه العبارة تشير الى الانصراف التام عنه؛ لأنهم لو نبذوه أمامهم، أو عن اليمين، أو عن الشمال لكان ذلك مظنة الالتفات اليه أو الأخذ منه بعد ذلك، ولكن الشيء إذا خُلِّف وراء الظهر فإنه لا يرجع إليه.
يقول صاحب الظلال:  وفي الآية فيها سخرية خفية, أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
(كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)
قوله تعالى (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) يثبت العلم لهذا الفريق
 فمعنى قوله تعالى (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتصديقه.
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇

 

كان على اليهود، والنصارى أن يفرحوا بهذا القرآن؛ لأنه مؤيد لما معهم؛ ولكن الأمر كان بالعكس !