Untitled Document

عدد المشاهدات : 2767

الحلقة (77) من "تدبر القُرْآن العَظِيم" تدبر الآيتين (108) و(109) و(110) من سورة البقرة (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَ

  تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة السابعة والسبعون
تدبر الآيات (108) و(109) و(110) من سورة البقرة
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ()
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ) 
)أم( مساوية للهمزة، فالمعنى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ، وهو محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والسؤال للإستنكار
(كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) كالأسئلة التى سألتها بنى اسرائيل لموسى –عليه السلام- كما قالوا له مثلًا (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) 
اذن السؤال فيه تحذير للمسملين ولغيرهم ألا يسألوا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يأتي لهم بآية، أو أن يقترحوا عليه معجزة تدل على نبوته، لأن بنى اسرائيل حين طلبوا ذلك من موسى عاقبهم الله تعالى فقال (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)
ثم يصعد الله تعالى تحذيره فيقول:
(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)
كأن طلب معجزة بعينها من الرسول هي كفر بالله تعالى، لأنه بذلك لايري أن الآيات التى جاء بها الرسول كافية، فطلب آية أخري
ولذلك لما طلب بنى اسرائيل من رسولهم عيسي –عليه السلام- أن ينزل عليهم مائدة من السماء، كان رده عليهم هو (اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) يعنى ما جئتكم به من الآيات فيه الكفاية (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
أيضًا فان طلب الآيات من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو من عمل المشركين واليهود
فاليهود طلبوا أن ينزل القرآن على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جملة واحدة، كما نزلت التوراة على موسى جملة واحدة
وأهل مكة طلبوا من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  أن يفجر في مكة نهرًا كالفرات، يقول تعالى في سورة الإسراء (وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً)
وطلب البعض أن يزيح الجبال حول مكة وتكون الأرض سهلة منبسطة، وطلب البعض أن يحول جبل الصفا الى ذهب 
وكان هناك رجل اسمه "عبد الله بن أبي أمية" وكان من أشراف مكة فقال للرسول  -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ائتني بكتاب من السماء فيه: من الله رب العالمين إلى بن أبي أمية: اعلم أني قد أرسلت محمدًا إلى الناس
ولذلك في آية أخري في سورة الإسراء (أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً)
يعنى أنا (بَشَر) وما تطلبونه أكبر من طاقة البشر
ورسول لا أستطيع أن أجيء بآية من تلقاء نفسي
اذن فاقتراح آية معينة من الرسول هو من أعمال اليهود والمشركين، ولذلك قال بعدها
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)
(فَقَدْ ضَلَّ) الضلال هو "التوهان" يعنى أن تسلك طريقًا لا يؤدي الا غايتك
و(سَوَاءَ) وسط، يقول الله تعالى (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)
 (السَّبِيلِ) الطريق
فالمعنى (ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أنه يبعد عن وسط الطريق
لأن الذي يبعد عن وسط الطريق، ويسير في الأطراف بعيدًا عن الطريق الممهد، يعرض نفسه للمخاطر والمتاعب والصعوبات 
والله تعالى يريد لنا أن نسير في طريق الإيمان الممهد الذي يوصلنا الى الجنة، وهو ليس طريقًا ممهدًا بيد البشر، ولكنه طريقًا ممهدًا بيد الله 
 

اقترح مشركى مكة على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمور كثيرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
كان اليهود في المدينة يحاولون أن يدسوا الى الصحابة أسئلة يسألونها للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو يعيزوا اليهم أن يقترحوا على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معجزة معينة
وكان بعض اليهود منافقين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، فكان المسلمون يستمعون اليهم، وربما يتأثرون بكلامهم 
ولذلك بعد أن حذر الله تعالى في الآية السابقة المسلمون من كثرة سؤال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو اقتراح معجزة معينة، يلفت الله تعالى المسلمين الى خبث نفوس اليهود الذين يريدون أن يجروهم الى ما وقعوا فيه آبائهم مع نبيهم موسى –عليه السلام- فيقول تعالى:
(وَدَّ) أحب الشيء حبًا شديدًا
(كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي كَثِيرٌ مِنْ اليهود والنصاري
والمعنى أن اليهود والنصاري يحبون هذا الأمر بكل قلوبهم
 (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) أن يرجعونكم 
(مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ) أي من بعد أن ثبت الإيمان في قلوبكم
(كُفَّارًا حَسَدًا) والحسد هو تمنى زوال النعمة من المحسود، ولو لم تذهب اليك
واذا كان الحسد هو تمنى زوال النعمة، فهذا يدل على أنهم يعتقدون اعتقادًا جازمًا أن ما فيه المسلمون من الإسلام نعمة، واتباع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نعمة، لأنه سيؤدي في النهاية الى دخول الجنة
وهذا يدل على خلل في تركيبتهم النفسية، لأن اذا كنت تعلم أن الإسلام حق، وتعلم أن محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسول، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه سيد المرسلين، اذا كنت تعلم كل هذا، فبدلًا من أن تحسد المسلمين على اسلامهم، وتحسد المؤمنين على اتباعهم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لماذا لا تدخل في الإسلام وتتبع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ؟ 
وذلك كما قال تعالى في سورة الأنفال ( وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍۢ) كان المفروض والمنطقي أن يقولوا: ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فاهدي قلوبنا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)
يعنى ما يفعلونه من محاولة صد المؤمنين عن الإسلام ليس أمرًا من عند الله، لأن البعض ربما يعتقد أن دينهم يأمرهم بذلك، أو أن التوراة تأمرهم بذلك، فالله تعالى يقول أن هذا غير صحيح، بل على العكس دينهم وتوراتهم تأمرهم بالإسلام وباتباع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- 
ولذلك قال تعالى (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) يعنى هذا الصد وهذا الحسد ليس أمرًا من عند الله تعالى، وانما من عند نفوسهم الخييثة الممتلئة بالحقد والغل والحسد والكراهية للمسلمين 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)
هذه هي المصيبة التى ارتكبوها، أنهم يريدون رد المؤمنين عن الإسلام، وحسدوهم (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)
 أي بالرغم أنه قد تبين لهم أن الإسلام هو دين الحق، وأن محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو النبي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والآية تكشف ما في نفوس كثير من أهل الكتاب من الحقد والحسد والغل الكراهية للمسلمين، وتحذير للمؤمنين اذا وجدتم أحدًا من أهل الكتاب يحاول أن يشكك في دينك، ويثير الشبهات، ويتناول ما يعتقدون أنه مطعنًا في الدين، ويقول الرسول تزوج عائشة في سن صغيرة، وقتل أم قرفة، والآية كذا تتعارض مع الآية كذا، فاعلم أنه يحقد عليك ويحسدك لأنه يعلم أن الإسلام هو دين الحق
والا فلماذا كل هذه الصفحات والمواقع على النت والتى تهاجم الإسلام ؟ ولماذا هذه القنوات التى أنشأت خصيصُا لمهاجة الإسلام ؟ ولماذا قسيس اسمه "زكريا بطرس" فرغ حياته لمهاجة الإسلام ؟ السبب أنهم يحقدون على المسلمين لأنهم يعلمون أن الإسلام هو دين الحق
ولمذا عندما يدعي احدهم الى مناظرة مثل هذا الزكريا بطرس فانه لا يقبل المناظرة ولا يقبل المواجهة ؟ لأنه يعلم أنه سيهزم في المناظرة ويعلم أن الإسلام هو دين الحق
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل أن هذه الآية نزلت في عدد من اليهود والذين كانوا يبذلون جهدًا كبيرًا في سبيل صد الناس عن الإسلام مثل: حُيَيّ بْن أَخْطَبَ، وَأَبُو يَاسِر بْن أَخْطَبَ، وكَعْب بْن الْأَشْرَف، وغيرهم، وكان ذلك بعد غزوة أحد، حيث حاول هؤلاء أن يستغلوا الهزيمة النسبية التى لحقت بالمسلمين في أحد في السنة الثالثة من الهجرة في زعزعة العقيدة الإيمانية في نفوس بعض الصحابة، مثل "حذيفة بن اليمان" و"عمار بن ياسر" وغيرهما، ولكنهم كانوا يردون عليهم ردودًا مفحمة، ثم عادوا وأخبروا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما قالوا
 

بذل اليهود جهدًا كبيرًا في سبيل صد الناس عن الإسلام
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا)
"العفو" جائت من: عفت الريح الأثر
وهو ترك العقاب أوالمؤاخذة على الذنب، كما نقول "عفوت عنه" يعنى لن أعاقبه أو لن أؤاخذه على الذنب
و"الصفح" مأخوذ من صفحة العنق، وهو أن يلتفت الإنسان ويوليه صفحة العنق
وهو الإعراض عن الذنب، ومحو أثره من النفس 
ولذلك فقد تعفوا ولا تصفح
لأن تعفو معناها أنك لن تعاقب المذنب، ولكن أثر ذنبه في نفسك
فاذا اقترن العفو بالصفح فالمعنى أنك لن تعاقب المذنب، وليس هناك أي أثر للذنب في نفسك
والحق –سبحانه وتعالى- يريد للمؤمنين ليس فقط العفو عن الذنب حتى لا تتشتت قوتهم في هذه الفترة من تاريخهم، ولكن يريد لهم أيضًا ألا تنشغل قلوبهم بمكائد اليهود فيصرفهم ذلك عن التركيز في الأهداف التى تقتضيها المرحلة التى هم فيها، فتتشتت قوتهم النفسية
وهكذا يريد الله تعالى ان يحفظ لهم قوتهم المادية وقوتهم النفسية
اذن فهي قضة عامة يريد أن يلفتنا اليها الله تعالى في هذه الآية، وهي اذا كنت غير مستعدًا للمواجهة، فاجعل شعارك هو "العفو والصفح" 
العفو، يعنى تتجنب هذه المواجهة، كما قال أحمد شوقي في خواطره النثرية "ربما تقتضيك الشجاعة أن تجبن ساعة"
والصفح هو ألا تشغل قلبك بهذا العدو، حتى لا تتشتت قوتك النفسية
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) 
يعنى حتى يغير الله هذا الحكم بالعفو والصفح، الى أمر آخر 
اذن (بِأَمْرِهِ) يعنى بأمر لكم آخر، وبحكم آخر
وهذا ما حدث حين أذن بالقتال، فكان جلاء "بنى قينقاع" وجلاء "بنى النضير" وقتال "بنى قريظة"
اذن قوله تعالى (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) تَصْبِيرُ للمؤمنين واخطار لهم بأن أمر الله تعالى لكم بالعفو والصفح أمر مؤقت، وعند المشرع حكم آخر، وهذا الحكم سيكون عندما تكون لكم القوة التى تستطيعوا بها الرد على أعدائكم
وفيه أيضُا تحذير لأهل الكتاب، ولليهود في المدينة بصفة خاصة، أن العفو والصفح من المسلمين له أجل سينتهي عنده، وبعد ذلك سيكون هناك حكم جديد، فانتهزوا هذه الفرصة السانحة وتراجعوا عن مهاجمة ومعاداة الإسلام 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
لأن العفو والصفح يعنى عدم التحرك، فناسب أن يقول الله تعالى بعده أنه تعالى (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقدرته تعالى قدرة كاملة، أي مستغنى في فعله عن معاونة غيره، وقدرة مطلقة يعنى قدرة لا تخضع لقانون ولا سنة ولا ناموس، ولا تحتاج الى مقدمات ولا الى أسباب
واشارته تعالى الى قدرته في هذه الآية، يعنى أن الله تعالى -حين يأذن لكم بقتالهم-  قادر على نصركم على أعدائكم من اليهود، لأن اليهود كانوا يمتلكون المال والسلاح، ويحتمون في حصون داخل المدينة، والمدينة مليئة بالمنافقين، فكان موضوع هزيمتهم أو جلائهم من المدينة أمر بعيد المنال
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
)وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110(
يشير تعالى الى أن أكبر رد على محاولات اليهود الخبيثة في ردكم عن الإسلام، بعد أحد أو بعد تغيير القبلة هو تقبلوا على تكليفات الله تعالى بحرارة وصدق ويقين، ولذلك قال بعدها:
)وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)
وقلنا من قبل أن اقامة الصلاة ليس معناه أن تؤدي الصلاة بكل أركانها وشروطها فقط، ولكن فوق ذلك كله أن تؤديها بتمام خشوعها وخضوعها
(وَآَتُوا الزَّكَاةَ) 
يعدنى اعطوا الزكاة بطيب نفس
والزكاة هي الزيادة والنماء، وهي الطهارة
فالزكاة سميت بذلك لأنها تزيد المال وتنميه، ولأنها تطهر المال، وتطهر نفس المزكي من البخل، وتطهر نفس المزكي اليه 
وجاء الأمر بالزكاة هنا حتى يخرج المسلمون من سيطرة اليهود الإقتصادية التي يستذلون بها المسلمين.
 

(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) 
اذن هذه الزكاة وهذه الأعمال الصالحة، هي أمور يدخرها الإنسان عند الله تعالى
كما قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
"إذا مات ابن آدم قال الناس: ما خلف؟. وقالت الملائكة: ما قدم؟ ".
(مِنْ خَيْرٍ) 
الخَيْرُ هنا هو ما تنفقون من زكاة وصدقة 
وأيضًا كل الأعمال الصالحة
وقوله تعالى (مِنْ) يعنى من بداية ما يقال له خَيْرٍ، كما قال تعالى (فَمَنْيَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ )
(تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ)
أي تجدوا ثوابه عند الله
اذن ما تقدمه من أموال وزكاة وصدقة هي في أيد أمينة
 (إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
وهذا خَبَر مِنْ اللَّه للمؤمنين الذين يخاطبهم في هذه الآية أَنَّهُمْ مَهْمَا فَعَلُوا مِنْ خَيْر أوَشَرّ، سِرًّا أوَعَلَانِيَة , فَهُوَ –تعالى-بِهِ بَصِير لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْء , فَيَجْزِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ جَزَاءَهُ وَبِالْإِسَاءَةِ مِثْلهَا.