Untitled Document

عدد المشاهدات : 2604

الحلقة (84) من تدبر القُرْآن العَظِيم تدبر الآيتين (126) و (127) من سورة البقرة (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَ

  تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الرابعة والثمانون
تدبر الآيتين (126) و (127) من سورة البقرة
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)
بعد أن أسكن إِبْرَاهِيمُ زوجته السيدة "هاجر" وابنه اسماعيل في وادي مكة، والوادي هو قطعة الأرض المنخفضة عن سطح الأرض، وقد تكون محاطة بالجبال مثل وادي مكة، وكان واديًا جافًا لازرع فيه ولا ماء
مكة في عهد ابراهيم
دعا ابراهيم بهذا الدعاء وهو أن يكون (هَذَا) أي: هَذَا الوادي (بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) 
اذن فقد دعا "إِبْرَاهِيمُ" بثلاثة أدعية: 
- الدعاء الأول أن يكون هذا الوادي الجاف (بَلَدًا)
واستجاب الله تعالى لدعاء إِبْرَاهِيمُ، فجاءت قبيلة من اليمن وهي قبيلة (جرهم) فسكنت في مكة 
- الدعاء الثاني هو أن يكون هذا البلد (آَمِنًا)
واستجاب الله تعالى لدعاء ابراهيم فحرم مكة، أي جعل منطقة مكة وما حولها محرم فيها القتل، حتى الدواب يحرم صيدها، وحتى شجر الحرم وحشيشه يحرم قطعه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 في سورة إِبْرَاهِيمُ يقول تعالى "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا" 
لماذا في سورة ابراهيم جاء بكلمة (الْبَلَد)َ معرفة، بينما هنا في سورة البقرة قال (بَلَدًا) نكرة ؟
نقول أن الدعائين مختلفين، وكل دعاء كان في زمن مختلف، فالدعاء الأول لم يكن هناك بلد، وكانت مكة عبارة عن وادٍ جافٍ في الصحراء، بينما الدعاء الثاني كان بعد أن جاءت قبيلة (جُرهُم) الى مكة واستقرارهم بها، وأصبحت مكة بلدًا، ولهذا قال في آخر الدعاء (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) اذن فقد كان "إِسْحَاقَ" قد ولد، وإِسْحَاقَ ولد بعد اسماعيل بثلاثة عشر عامًا
دعوة إِبْرَاهِيمُ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
- الدعاء الثالث (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) 
لأن مكة كانت –كما قلنا- واديًا جافًا في الصحراء ليس فيه أي زرع أو ماء، ولذلك قال تعالى (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) 
واستجاب الله تعالى –كذلك- الى هذا الدعاء، فقال تعالى (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) 
حتى قال البعض أن الله عز وجل بعث جبريل إلى الشام، فاقتلع الطائف من موضع بالشام، ثم طاف بها حول الكعبة سبعًا، لذلك سميت الطائف، ثم وضعها موضعها الذي هي الآن فيه في "تهامة"  ومنها تجْبَى إلى مكة الثمرات
(وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ثم قال إِبْرَاهِيمُ (مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ)
اذن فابراهيم قد طلب الرزق فقط للمؤمنين، لماذا ؟
لأنه حين قال له الله تعالى (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) طلب الإمامة لذريته فقال (وَمِن ذُرِّيَّتِي) فقال تعالى (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )
فتأدب إِبْرَاهِيمُ وهو يطلب الرزق لمن سيقيم في هذا البلد، فطلب ألا ينال هذا الرزق الظالمون، ولذلك استدرك فقال (مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ)
ولكن الله تعالى يعلم إِبْرَاهِيمُ أن عطاء الألوهية ليس كعطاء الربوبية: فإمامة الناس عطاء الوهية لا يناله إلا المؤمن، أما الرزق فهو عطاء ربوبية يناله المؤمن والكافر
فالله تعال لم يقل للشمس أشرقي على المؤمن فقط، ولم يقل للهواء لا يتنفسك الا مؤمن
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا)
(قَالَ) تعالى (وَمَنْ كَفَرَ) (فَأُمَتِّعُهُ) أي فأرزقه كذلك (قَلِيلًا) أي في الدنيا حتى نهاية أجله
وهذه اشارة الى أن متع الدنيا مهما كانت كثيرة فهي قليل، ومهما طال تمتعك بها فهي أيضًا قليل، لأنها تقارن بمتع يوم القيامة، والأخرة خير وأبقي 
كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لموضع سوطٍ في الجنة خير من الدنيا وما فيها"
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ)  وكلمة (أَضْطَرُّهُ) تشير الى أن الإنسان لا اختيار له يوم القيامة، كما نقول "اضررت الى فعل كذا" أو "ضررته لفعل كذا"  
(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قلنا أن "بِئْسَ" هي كلمة جامعة للذم، و(الْمَصِيرُ) هو ما صار اليه وانتهي اليه
فالمعنى فبئس حاله الذي صار اليه وانتهي اليه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
ينتقل الله تعالى بعد ذلك إلى التذكير بأن الذي بنى البيت هو إِبْرَاهِيمُ واسماعيل –على نبينا وعليهما الصلاة والسلام- وذلك حتى يقول لليهود والنصاري أنتم على دين إِبْرَاهِيمُ ومنهجه ومع ذلك لا تحجون الى البيت الذي بناه بأمر الله تعالى ونادي الناس الى حجه
كما يدعو العرب الى الإقتداء بسلفهم الصالح، الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، وقد كان العرب يفاخرون بأنهم ينتسبون الى إِبْرَاهِيمُ واسماعيل
 (وَإِذْ يَرْفَعُ) (يَرْفَعُ( فعل مضارع، وكان القياس أن يأتي بالفعل الماضى فيقول (رَفَعُ)
لأن الفعل المضارع يأتي لتصوير الحال حالًا أو استقبالًا
ولكن الله يريد أن يستحضر المخاطب في كتابه حال إِبْرَاهِيمُ، وأن يتصور مشهد بناء البيت كـأنه يراه أمام عينه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
يعتقد البعض أن "إِبْرَاهِيمُ" هو الذي قام ببناء الكعبة، وهذا غير صحيح فالكعبة كانت قبل إِبْرَاهِيمُ ومنذ آدم –عليه السلام- 
وقيل أن الذي بنى الكعبة أول مرة هو آدم عليه السلام، وقيل بل كانت الكعبة قبل آدم وأن الملائكة هي التى قامت ببناءه، وقيل أن الكعبة نزلت من الجنة، المهم أن الكعبة كانت موجودة منذ خلق آدم، يقول تعالى (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) يعنى وضع للناس للتعبد فيه
ثم تهدمت الكعبة بعد ذلك بسبب السيول والعوامل الجوية المختلفة، وقيل أن البيت اندرس زمن طوفان نوح، ولكن بقي أساس البيت، فكانت الأنبياء بعد نوح تحج اليه وهي لا تعرف موضعه بالتحديد
حتى أمر الله تعالى إِبْرَاهِيمُ أن يعيد بناء البيت، فانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، ثم قَـامَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ وَأَخَذَا الْمَعَاوِلَ لا يَدْرِيَانِ أَيْنَ الْبَيْتُ ؟ فعرف تعالى إِبْرَاهِيمُ مكان البيت، يقول تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) أي عرفنا ابْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ 
يقول الشعرواي –رحمه الله- كان البيت معلومًا عموم مكانه، حتى جاء ابراهيم فعلم خصوص مكانه
كيف عَرَّفَ الله تعالى ابْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ؟ قيل أن اللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ رِيحًا فَكَنَسَتْ الرمال حتى ظهر أَسَاسِ الْبَيْتِ، وقيل أن غمامة أظلت مكان البيت، أو أن جبريل أوحي له بمكان البيت
ثم أمر الله تعالى إِبْرَاهِيمُ أن يرفع الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، يقول تعالى (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)
 

الكعبة كما بناها إِبْرَاهِيمُ
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
و"الْقَوَاعِدَ" جَمْع قَاعِدَة وهو الأساس، وهي من القعود، أي الثبات
كانت العرب تقول: قعدت الفسيلة اذا ثبتت وصار لها جذور وجذع
فقوله تعالى (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)
يعنى أن الله تعالى أمر "إِبْرَاهِيمُ" أن يرفع أي يبنى جدران الكعبة على الأساس الذي كان موجودًا منذ خلق آدم
اذن فابراهيم لم يقم ببناء الكعبة كما يعتقد البعض، لأن أي بناء هو طول وعرض وارتفاع، والطول العرض كانا موجودين، والذي قام به إِبْرَاهِيمُ هو الإرتفاع أو ما نطلق عليه البعد الثالث للبناء
لذلك قلنا من قبل أن البعض يفزع حين يسمع حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الكعبة ستهدم آخر الزمان على يد رجل من الحبشة، لقبه الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذو السوقين، نقول أن حرمة الكعبة عظيمة لاشك في ذلك، والاعتداء على الكعبة أمر جلل، وسيكون لحكمة لا يعلمها الا الله، ولكنه اعتداء على جدران الكعبة وليس ازالة للكعبة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
لم يقل تعالى (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)
وانما قال (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)
حتى تشير الى ان الذي قام بالبناء تشريفًا له هو (إِبْرَاهِيمُ) وأن الذي ساعده في ذلك تشريفًا له أيضًا هو (إِسْمَاعِيلُ)
فابراهيم –عليه السلام- كان يضع الحجارة بنفسه، واسماعيل كان يناوله الحجارة
والأمر ليس لأن "إِسْمَاعِيلُ" موجود في المكان فانه سيبنى البيت مع أبيه إِبْرَاهِيمُ، ولكن الله تعالى وضع لكل واحد دوره في هذه الطاعة العظيمة على حسب مكانته عنده تعالى، فكان "إِسْمَاعِيلُ" يناول الحجارة لأبيه، و"إِبْرَاهِيمُ" يضع الحجارة بنفسه
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وقيل أن كلمة "إِسْمَاعِيلُ" تعنى: إسمع يا الله، لأن "إيل" بالسريانية هو الله، لأن إبراهيم لما دعا ربه قال: اسمع يا إيل، فلما أجابه ورزقه بما دعا من الولد ، سمّى بما دعا به
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)
روي أن "إِبْرَاهِيمُ" كان يبنى البيت وهو يبكي اشفاقًا ألا يقبل منه هذا العمل، ويدعو بهذا الدعاء (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)
وهذا توجيه من الله تعالى لكل طائع وهو في أثناء الطاعة، أن يتوجه بالدعاء والتضرع لله تعالى أن يتقبل منه عمله ولا يرده خائبًا
وذلك حتى يستحضر في قلبه الخشوع والخضوع والإخلاص لله تعالى
 (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي (السَّمِيعُ) لدعائنا (الْعَلِيمُ) بما في قلوبنا
وتعلمنا الآية أن نختم الدعاء بالثناء على الله
لأننا دائما نبدأ الدعاء بالثناء على الله، وهذا حسن، ولكننا لا نتنبه بأن نختم الدعاء بالثناء على الله
فتوجهنا الآية الى أن نختم دعائنا بالثناء عليه، وأن يكون الثناء متناسبًا مع الدعاء
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇