Untitled Document

عدد المشاهدات : 2233

الحلقة (108) من تدبر القُرْآن العَظِيم تدبر الآية (183) من سورة البقرة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183

 تدبر القُرْآن العَظِيم

الحلقة الثامنة بعد المائة
تدبر الآية (183) من سورة البقرة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) 
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) قلنا من قبل طالما بدأ الله تعالى النداء بيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا، فمعنى ذلك أن هناك تشريع وتكليف
فالله تعالى يصدر الأمر بحيثية هذا الأمر، فأنا آمركم بهذا الأمر لأنكم آمنتم بي، وطالما آمنتم بي فأنا آمركم بكذا وكذا وكذا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
 (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) أَيْ فُرِضِ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، وقلنا من قبل أن "كُتِبَ عَلَيْكُمُ" أي "فُرِضِ عَلَيْكُمُ" لأن الكتابة تثبت الشيء وتوثقه
الصيام في اللغة: الإمساك والكفّ عن الشيء، والترك له، فكانت العرب تقول "صمت عن كذا" يعنى: أمسكت أو كففت عن كذا، وكانوا يقولون "صامت الخيل" يعنى كفت عن السير، وصامت الريح اذا سكنت وركدت، ومنه قول النابغة الذبياني:
خَـيْلٌ صِيَـامٌ, وخَـيْلٌ غَـيْرُ صَائِمَةٍ                                      تَحْـتَ العَجَـاجِ, وأُخْـرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا 
وفي سورة مريم "إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا" فمعنى "صَوْمًا" هنا أي كفًا عن الكلام وتركًا له وصمتًا
وفي الشرع الصيام هو: الإمساك عن الأكل والشرب والنساء، مع النية، من الفجر إلى المغرب
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
والصيام من العبادات التى فرضت بالتدرج، فطوال فترة الدعوة المكية، وهي ثلاثة عشر عامًا، وحتى السنة الثانية من الهجرة، كان الصيام تطوعًا ولم يفرض فيه شيء، وكان المسلمون يصومون يوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، وهي أيام: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر قمري، وهي الأيام البيض، وسميت كذلك لأن لياليها تكون بيضاء بلون القمر، لأن القمر يكون بدرًا، وقيل أن ذلك كان صيام الأمم السابقة، وهي ثلاثة أيام من كل شهر، وقيل أن صيام هذه الأيام الثلاثة ويوم عاشرواء كانت فرضًا ولم تكن تطوعًا، والأرجح أنها كانت تطوعًا
وظل الأمر كذلك حتى فرض صوم رمضان بعد تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا من الهجرة، في شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة، قبل غزوة بدر بحوالى شهر
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: كَمَا فُرِضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ قَبْلِكُمْ.
نحن نعلم أن هناك أمور عقائدية الأديان كلها فيها سواء مثل وحدانية الله تعالي، والإيمان باليوم الآخر، وغير ذلك، وهناك أيضًا أمور تشريعية الأديان كلها فيها سواء: ومن هذه الأمور الصيام، فجميع الأمم السابقة منذ آدم وحتى الإسلام كانوا يصومون، ولكن صفة الصيام كانت تختلف، وعدد الأيام تختلف أيضًا، يقول تعالى (لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجا) نجد مثلًا فِي قِصَّتَيْ زَكَرِيَّا وَمَرْيَمَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- أَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ عَنِ الْكَلَامِ، وعندنا لا يجوز الصيام عن الكلام 
واليهود الآن يصومون أربعة مرات في السنة
والنصاري يصومون عن أي طعام فيه روح ويصومون خمسين يومًا، وهكذا
حتى الملل الْوَثَنِيَّةِ كانت تصوم، فالقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ فِي أَيَّامِ وَثَنِيَّتِهِمْ كانوا يصومون، وكذلك اليونايين والرُّومَانِيُّونَ، حتى العرب في الجاهلية كانت قريش تصوم يوم عاشوراء كما جاء في الصحيحين عن عائشة –رضى الله عنها وعن أبيها- وَلَا يَزَالُ وَثَنِيُّو الْهِنْدِ وَغَيْرُهُمْ يَصُومُونَ إِلَى الْآنِ، وصيام الأديان الوثنية هو من بقايا الديانات السماوية
وقال البعض أن الأمم السابقة كانوا يصومون بنفس الكيفية، أي كانوا يصومون شهر رمضان بنفس الكيفية، ثم حدث تحريف في هذه الأديان
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ما فائدة قوله تعالى (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
ما الذي أستفيده اذا علمت أن الصيام قد كتب على الأمم قبلنا؟
الفائدة هي تسهيل عبادة الصوم على نفوس المسلمين
لأن الصوم عبادة شاقة، والأمر الشاق اذا علم الإنسان أن غيره قد أداها قبله، أو اشترك معه فيها فان المشقة تخف في نفسه
ولهذا قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي                 وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي
مثال: لو ابنك سيعمل عملية اللوز مثلًا، وأنت مهموم وقلقان فيأتي صديق لك، ويقول: ما انا كل عيالي عملوها، ما كل الناس عملتها، فتطمئن قليلًا
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) لعل هنا للتعليل، فقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) جملة تعليلية لبيان حكمة الصوم وفائدته، لأن الْوَثَنِيِّينَ كانوا ولا يزالون، يَصُومُونَ لاعتقادهم أَنَّ إِرْضَاءَ الْآلِهَةِ يَكُونُ بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وحرمانها من شهواتها الطبيعية، وَانْتَشَرَ هَذَا الِاعْتِقَادُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ يُعَلِّمُنَا في هذه الآية الكريمة أَنَّ هدف الصَّوْمَ ليس هو تعذيب النَّفْسِ، ولكن هدف الصَّوْمَ هو أن تصل الى درجة التقوي يقول تعالى 
ولذلك يقول تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لأن المسلم عندما يصوم فانه يتَرْكِ شَهَوَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ الْمُبَاحَةِ الْمَيْسُورَةِ امْتِثَالًا لأمر الله تعالى، فَتَتَرَبَّى بِذَلِكَ إِرَادَتُهُ عَلَى مَلَكَةِ تَرْكِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَالصَّبْرِ عَنْهَا فَيَكُونُ اجْتِنَابُهَا أَيْسَرَ عَلَيْهِ
أيضًا لأن الصوم سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ لَا يُشْرِفُ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، فتتربي عند الصائم مَلَكَةُ الْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْحَيَاءِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَرَاهُ حَيْثُ نَهَاهُ.
اذن فَلَيْسَ الصِّيَامُ فِي الْإِسْلَامِ لِتَعْذِيبِ النَّفْسِ، بَلْ لِتَرْبِيَتِهَا وَتَزْكِيَتِهَا، وحتى يصل بها الى درجة التقوي
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
ولذلك كان لى درس في سلسلة عبادة الصوم بعنوان "كيف تصبح وليًا" قلت أن الصيام يمكن أن يصل بك الى مرتبة الولاية، لأن الصيام يصل بك الى درجة التقوي، لقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) والتقوي تصل بك الى درجة الولاية لقوله تعالى (ألَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) فالولاية ايمان بالله، وتقوى لله، فاذا كنت مؤمنًا بالله وكنت تقيًا فأنت من أولياء الله
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
اذن ملخص تدبر الآية الكريمة، أن الله تعالى يخبرنا بأن الصيام قد أصبح فرضًا بعد ان كان تطوعًا، كما يخبرنا أننا لسنا بدعًا من الأمم، وأن هذا الصيام كما فرض علينا فقد فرض على جميع المؤمنين في الأمم السابقة منذ آدم –عليه السلام- 
وقد اخبرنا تعالى بذلك لتسهيل عبادة الصوم على نفوس المسلمين، لأن العرب لم تكن تعرف الصوم، والصوم عبادة شاقة، والأمر الشاق اذا علم الإنسان أن غيره قد أداها قبله، أو اشترك معه فيها فان المشقة تخف في نفسه
ثم يخبر تعالى أن الهدف من الصوم ليس تعذيب النفس كما في الملل الوثنية، وانما حتى نصل الى درجة التقوي
وقلنا أن الصيام يصل بنا الى درجة التقوي عن طريقين:
الأول: أن الصائم يترك شهواته المباحة امتثالًا لأمر الله تعالى، فيكون سهلًا بعد ذلك أن تترك الشهوات المحرمة
والثاني: أن الصوم سر بين العبد وربه، لا يطلع عليه أحد الا الله، فتتربي عند المسلم ملكة مراقبة الله تعالى